العدد -8 - الخميس 05 سبتمبر 2002م الموافق 27 جمادى الآخرة 1423هـ

العلاقات السودانية - المصرية... وتداعيات «اتفاق مساكوش»

570 وحدة قبلية و119 لهجة و57 مجموعة أثنية

محمد أبوالقاسم حاج محمد comments [at] alwasatnews.com

.

معظم المتحدثين في العلاقات السودانية المصرية إما بدأوا «بترانيم» وادي النيل والعلاقات «الازلية»، وإما ركنوا «للذاتية» المصرية أو السودانية، وندر «الجمع» لديهم بين هذه الذاتية والعلاقات الأزلية.

لذلك تحرص مصر على الموقف «الاستراتيجي التضامني» بينها وبين السودان من منطلقين:

الأول: وهو ان يلتزم السودان بحصته المائية المتفق عليها مع مصر بوصفه «دولة ممر» وبوصفه «مستفيداً» له «طموحاته» الاستثمارية الخاصة.

والثاني: ألا تنشأ علاقات «ذات خصوصية» بين السودان ودول المنبعين، الاثيوبي والاستوائي، لا تكون مصر طرفاً فيها.

ومن المنطلق الثاني ثارت حساسية مصر حين ارتبط السودان بـ «منظمة التجارة التفضيلية لدول شرق إفريقيا» قبل أن يتقرر وضعها هي في هذه المنظمة التي تشمل دول حوض النيل الاستوائي. وكذلك ظهرت حساسيتها تجاه طرح «كنفدرالية القرن الافريقي» التي تشمل السودان واثيوبيا وارتريا وجيبوتي والصومال بمعزل عنها. فإذا كانت مصر تعاني هذه «الحساسية الاستراتيجية» من «دولة الممر» حين تمتد الخرطوم بعلاقات ذات خصوصية مع دول المنبعين المجاورة لها جغرافيا - خلافا لموقع مصر - فكيف تقبل مصر وجود «دولة ممر» ثانية يحكمها توجه افريقي بحت في جنوب السودان ولديها مطلق الحرية من دون روابط تاريخية أو حضارية أو ثقافية مع مصر (حال شمال السودان)، لتتخذ هذه «الدولة الثانية» ما يروق لها من العلاقات الاقليمية الافريقية والدولية؟ وما يروق لها من الاستثمارات المائية بمعزل عن اتفاق 1959؟ وكيف إذا اصبحت هذه الدولة الثانية - مع انها دولة مجرى - أقرب لمبدأ نايريري العام 1962 وأقرب للموقف الاثيوبي الراهن.

إن مشكلات شمال السودان، ومهما تكن، قابلة للحل، فكيف - في تقدير مصر - الموقف من دولة جديدة ليس لها «العلاقات الازلية» ذاتها التي تربط بين شمال السودان ومصر؟ سبق للمرحوم صلاح سالم، حين كان مسئولا عن شئون السودان في قيادة ثورة يوليو/ تموز 1950، أن اقترح على رئيس الوزراء السوداني المرحوم اسماعيل الازهري في فترة الحكم الانتقالي الذاتي تدخل القوات المصرية لقمع تمرد الفرقة الجنوبية بقيادة الملازم رينالدو في اغسطس/آب 1955. فرفض الازهري ذلك الاقتراح، وكان مبعث صلاح سالم هو الخوف من انفصال الجنوب وقيام دولة ممر ثانية باتجاه المنابع الاستوائية.

كما رفضت مصر بشدة المشروع البريطاني لإقامة «دولة ابجا الكبرى» التي تضم اثنيات متداخلة في غرب إرتريا وشمالها مع شرق السودان، إذ كانت ستشكل هذه الدولة كيانا آخر يمتد من «حلايب» إلى حدود اثيوبيا مما يطرح مشكلة ممرات مياه النيل من إرتريا والهضبة الاثيوبية... وقد تولى كل من السكرتير الاداري البريطاني للسودان دوغلاس نيوبولد، والحاكم البريطاني لارتريا «ترافاسكس» ترسيم هذا المشروع في العام 1943.

كذلك تحفظت مصر بشدة على اتفاق أديس أبابا في العام 1972 بين نظام نميري واللواء جوزيف لاغو لمنح الجنوب «الحكم الاقليمي الذاتي»، وتمت المفاوضات باشراف اميركي والماني غربي وبرعاية اثيوبية وبمعزل عن مصر. فثارت الحساسية من المنطلقين نفسيهما: محاذير انفصال الجنوب من ناحية، ووجود علاقات ذات خصوصية استراتيجية بين السودان واثيوبيا... وتحت مظلة دولية غربية... فكان ما كان، ولتلك الحقبة أسرارها في بداية عهد المرحوم أنور السادات.

ثم أن المفكر الاستراتيجي المصري «عبدالملك عودة»، وبمعيته بطرس بطرس غالي، الذي كان وزير دولة للشئون الخارجية المصرية، طرحا - حين ضاقا ذرعاً بمخططات السودانيين - ضرورة أن تقفز مصر مباشرة لإقامة علاقات استراتيجية «ثنائية» مع دول المنبعين الاستوائي والاثيوبي، وألا تعتمد على «الرديف السوداني».

فالمشكلة دوما أنه لا توجد تلك اللقاءات - وحتى اليوم - التي توفر متاحات التفكير «المنهجي» و«الاستراتيجي» بين «الباحثين المتخصصين» في البلدين وليس «المختصين السياسيين» فقط في دوائر الخارجية والاستخبارات. إذ تطغى ردود الفعل الوقتية لدى السياسيين من دون «بوصلة اكاديمية علمية».

لم يفت الأوان بعد، ليس لمناهضة دور أميركا و«الايقاد» في مساكوش، فالدور «موضوعي» ومتوازن وتقتضيه مصلحة السودان، ولكن لدعم مساكوش بما هو مصري وبما هو عربي، لأن هناك من يريد «توظيف» مساكوش لفك ارتباط الشمال نفسه بعروبته، وربما لأبعد من ذلك بإسلامه، علماً بأني لا اعتبر «نظام الانقاذ» «اسلامياً» من قريب أو بعيد فهو اقرب ما يكون إلى الانظمة «الربوية» اقتصادا و«الالوغارشية» سلطة و«النفعية» سياسة. أما عروبته فهي «ثقافية موروثة» وليست «حضارية»، ومنهجه الفكري «ايديولوجي تراثي» وليس «معرفياً» و«معاصراً».

ما يجب ان يكون عليه الدور المصري والعربي هو في كيفية الحفاظ على وحدة السودان وسيادته الوطنية الواحدة غير المجزأة في إطار ما قررته مساكوش نفسها، وبما يؤدي لأن يكون تطبيق النظامين في دولة واحدة مدخلاً إلى الثقة الوحدوية وليس الانفصال. ذلك مع يقيني التام أن «قرنق» وحدوي حتى النخاع، ولكن على طريقته، وأن واشنطن مع «الوحدة» وكذلك «الايقاد».

فالمشكلة ليست في الانفصال «المتوهم» ولكن في «تكريس» النظامين واستمرارهما ككيانين متميزين من دون «تداخل دستوري» يهيمن عليهما معاً ويوّحد استراتيجية «النمو» بأكبر من مشروعات «التنمية المجزأة»، وثمة فارق جذري بين تداخل دستوري مهيمن و«نمو استراتيجي متكامل»، وبين كيانين وتنمية مجزأة.

فمشكلة السودان، ومنذ تكوين جغرافيته السياسية في الفترة (1862/1874) أنه تحتشد في داخله وعلى مدى مليون ميل مربع حوالي 570 وحدة قبلية، تنطق بنحو 119 لهجة مختلفة، وتتمحور حول 57 مجموعة اثنية، وتتمحور هذه بدورها حول 8 تكتلات اساسية، يشكل فيها العرب 39 في المئة، والنيليون الجنوبيون 20 في المئة والسودانيون الغربيون 14 في المئة والنوبة في الغرب 5 في المئة والنوبة في الشرق والشمال 5 في المئة والوافدون من غرب افريقيا 7 في المئة وابجا في الشرق 5 في المئة، و5 في المئة مجموعات غير محددة.

فحتى يتحول السودان من مجرد كيان جغرافي - سياسي إلى «وطن» تتدامج بداخله مختلف هذه التكوينات لابد من تنفيذ مخطط استراتيجي للنمو الوطني الشامل والمتكامل، بذلك يصبح الانفصال تآمرا في نظر ابناء الاقليم على الاقليم نفسه قبل ان يكون تآمراً على وحدة السودان.

هذا هو مضمون الدور المصري والعربي، أما كيفيته فأن يجلس الاختصاصيون المنهجيون الاستراتيجيون أولاً، فهناك الكثير الذي يجب ان يناقش، أما دون ذلك فإن الأوان لن يفوت على مشاكوس فقط، بل سيفوت على ما هو مقبل وبرغبة ايجابية افريقية وربما بمظلة أميركية ايضا، وأعني بذلك كنفدرالية القرن الافريقي التي ستضم حتما السودان واثيوبيا وارتريا والصومال وجيبوتي، فهل سنقول حينها فات الأوان على الدور المصري وعلى الدور العربي وتحديداً اليمني والسعودي عبر البحر الاحمر الذي تطل عليه هذه الكنفدرالية المحتملة؟

وأكرر في النهاية، حرصا على وحدة السودان في «السيادة الوطنية الواحدة» غير المجزأة دستوريا، وعلى عروبة السودان بالمقاييس «الحضارية» وعلى اسلام السودان بالمقاييس «المعرفية» وعلى دور السودان الافريقي «كطليعة» وليس «خلفية» في محيطات هذه القارة، شرقا باتجاه القرن الافريقي، وجنوبا باتجاه الحزام الاستوائي السواحلي، وغرباً باتجاه الحزام السوداني التاريخي التقليدي، أن تقف «مصرنا نحن»، وليس مصر مياه النيل فقط، كعمق استراتيجي وجيوبوليتيكي وخضاري لنا، وهذا هو دورها المركزي التاريخي إلى اليوم.

فإذا كان المرحوم ساطع المصري قد راود مصر لتلعب دورها العربي كعمق أوسع «للوطنية المصرية» فإني وبكل تواضع أراود مصر لتلعب دورها السوداني الافريقي بما يفرض «شراكتها» الموضوعية على الآخرين، وبأساليب تختلف عما مضى.

سياسي ومفكر سوداني

العدد -8 - الخميس 05 سبتمبر 2002م الموافق 27 جمادى الآخرة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً