العدد -8 - الخميس 05 سبتمبر 2002م الموافق 27 جمادى الآخرة 1423هـ

مكاسب قانونية تغلفها معركة صامتة في الأسرة

بعد 45 عاماً من إعلان بورقيبة تحرير المرأة التونسية

صلاح الدين الجورشي comments [at] alwasatnews.com

.

«لا ترددوا مثل هذه الإشاعة» هو عنوان لتعليق إحدى الصحف التونسية جاء رداً على خبر غير صحيح راج كثيراً خلال الأسابيع الماضية مفاده أن النية تتجه نحو التخلي عن قانون منع تعدد الزوجات والسماح للتونسي بزوجة ثانية. ليست المرة الأولى التي تروج فيها مثل هذه الأخبار، لكنها انتشرت بقوة خلال الأيام الأخيرة وعمت غالبية الأوساط. وعلى رغم التكذيب فإن الاستعداد لتقبل مثل هذه الروايات يبقى قائماً لأن ذلك مرتبط بقصة تحرير المرأة في تونس.

بدأت القصة في 13 اغسطس/آب من العام 1956 تاريخ صدور مجلة «الأحوال الشخصية» التي ألغت معظم أحكام الاسرة التي صيغت عبر قرون حسب المرجعية الفقهية للمذهبين المالكي والحنفي. ولم تمض سوى سنوات قليلة على ذلك التاريخ الذي أصبح عيداً رسمياً يحتفل به سنوياً، حتى أحدثت تلك المجلة انقلاباً ضخماً في المجتمع، ومنحت السلطة السياسية شهادة عبور إلى الساحة الدولية. وأصبح يشار إلى تونس بكونها البلد الإسلامي الثاني بعد تركيا الذي لا يسمح فيه بتعدد الزوجات، ولا تطلق النساء إلا بحكم قضائي يضمن حقوقهن المالية والأسرية، ولا تزوجن إلا بموافقتهن الصريحة أمام عدول إشهاد. ولكن على رغم مرور 46 عاماً على دخول تلك التشريعات حيز التنفيذ، فان قسماً واسعاً من الرجال التونسيين لا يزالون يعتقدون بأن المرأة «استغلت» هذه المكتسبات القانونية والاجتماعية لتغيير «موازين القوى» داخل الأسرة لصالحها، أو يتهمونها بأنها «أساءت» أحياناً التعامل مع هامش الحرية الذي أصبحت تتمتع به، وهو ما تنكره النساء.

ما أن استقلت تونس (20 مارس/آذار 1956) حتى سارع الزعيم الحبيب بورقيبة بتشكيل لجنة لمراجعة قوانين الأسرة. ولم تمضِ سوى أشهر قليلة حتى تم التصويت لصالح المجلة الجديدة. وعندما أحس بورقيبة بوجود تردد في مسألة الموقف من تعدد الزوجات حين مالت غالبية أعضاء اللجنة إلى تقييد ذلك بشروط، تدخل شخصياً وحسم الأمر في اتجاه إلغائه، وتجريم من يقومون به ومعاقبتهم بالسجن. وعلى رغم أن القرار جاء مفاجئاً حتى للحركة النسائية التونسية، ومربكاً للمجتمع ولعلماء الزيتونة إلا أنه لم يلق يومها معارضة قوية وواسعة. ولعل ذلك يعود إلى عدة عوامل من أهمها: أن القرار اتخذ ضمن سياق غمرة الحماس الجماعي باستقلال البلد والشروع في تأسيس دولة تونسية لحماً ودماً للمرة الأولى في التاريخ حسب اعتقاد بورقيبة.

أما العامل الثاني فيعود إلى التردي الكبير الذي آلت إليه أوضاع الأسرة التونسية على مختلف الأصعدة الاجتماعية والقانونية بعد قرون من الجمود، زادتها مرحلة الاستعمار فوضى وظلماً مما كان يستوجب القيام بإصلاحات عاجلة وجوهرية. وثالثاً الضعف الكبير الذي أصاب المؤسسة الزيتونية التي - على رغم انخراط طلبتها وخريجيها في النضال الوطني العام - إلا أنها فقدت تاريخيا القدرة على قيادة المجتمع سياسياً وثقافياً نتيجة عجزها عن التأقلم مع شروط المرحلة التاريخية علمياً ومعرفياً وهيكلياً، ما عجل بإلغائها خلال السنوات الأولى للاستقلال، وهو القرار الذي مكن بورقيبة من التخلص من خصم كان يخشى أن تعود له الروح في يوم من الأيام ويلعب في المستقبل دور السلطة المضادة.

بورقيبة: التشريع مدخل للتغيير والتحكم

إضافة إلى إيمان بورقيبة بعدالة قضية المرأة وبحقوقها الأساسية، كان أيضاً يرى في تحرير النساء سلاحاً فعالاً. فالحاكم الذي يكسب ود النساء وتعاطفهن يتعزز نفوذه بشكل كبير. وهو ما تحقق للرئيس التونسي الراحل وعزز مكانته في الغرب وعلى الساحة الدولية، وساعده كثيراً - إلى جانب عوامل أخرى - على نسج علاقات استراتيجية مع أوروبا وأميركا فاعتبراه زعيماً غير عادي يستحق الدعم والاحترام.

كان بورقيبة محامياً، وهو ما يجعله يراهن على دور التشريعات في إحداث التغييرات العميقة في المجتمع. لهذا شرع منذ انفراده بالحكم في تحديث كل المنظومة القانونية الخاصة بالدولة والمجتمع مما أثر بشكل واضح في مجمل الاوضاع العامة، وغير العلاقات والعقليات والهيكلة العامة للمجتمع التونسي. وشكل خروج النساء بكثافة الى فضاءي الدراسة والشغل في إحداث نقلة نوعية غيرت المشهد العام، وفرضت نسيجاً اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً مغايرا لما كان سائداً. انقرضت الاسرة الممتدة لتحل محلها الاسرة الصغيرة. ومع إحكام سياسة تنظيم النسل التي راهن عليها بورقيبة - خلافاً للجزائر مثلاً - وسهر شخصياً على تنفيذ برامجها، تراجعت نسبة الولادات. وبحسب آخر الاحصاءات فان عدد الرجال اصبح يفوق قليلاً عدد النساء، فهم في حدود 50,4 بالمئة وهن لا تقل نسبتهن عن 49,6 بالمئة. كما اظهرت نتائج امتحانات البكلوريا (امتحان ختم دروس المرحلة الثانوية) للسنة الدراسية الماضية عن تفوق ملحوظ للفتيات على الفتيان بفارق بلغ حدود ثمانية آلاف. وتضاعف عدد العاملات 11 مرة خلال 23 سنة الاخيرة. وتشير الدراسات الى ان المرأة التونسية تحتل الصدارة في العمل بقطاع الصناعات المعملية بنسبة لا تقل عن 45,9 في المئة.

التونسيات والسياسة والمعارضة

هذا النسق السريع في تغير البنية الاجتماعية دفع بإحدى الصحف المحلية الى المبالغة في القول بأن هناك «زحفاً نسائياً على كل المواقع مما جعل الرجال في حال دفاعية»، فالميدان السياسي لا يزال يكاد حكراً على الوسط الذكوري، اذ ان نسبة النساء في الحكومة خلال العام 2001 لم تتجاوز 9,3 من مجمل الاعضاء، و11,5 بالنسبة لمجلس النواب. حتى هذه النسب الضعيفة لم تكن نتيجة تطور طبيعي وتلقائي في عمليات انخراط النساء في النشاطات السياسية، وانما جاء بقرار من اعلى سلطة بالبلاد وفق نسب تضبط سلفا.

كما يلاحظ أن نسبة مشاركة العنصر النسائي في أحزاب المعارضة بقي ضعيفاً حتى في صفوف التنظيمات اليسارية او الليبرالية. الاستثناء الذي حصل خلال الثمانينات يتعلق بالحركة الاسلامية التي نجحت في استقطاب اعداد غفيرة من النساء، لكن ادوارهن بقيت ثانوية وهامشية في الهياكل القيادية الحزبية وفي العمل السياسي المباشر. وامتدت هذه الظاهرة لتشمل ايضا النقابات والجمعيات المستقلة النشيطة.

فسر البعض هذه الظاهرة بكونها نتيجة استسلام عموم النساء التونسيات للسلطة السياسية التي يعتبرنها بمثابة «ولية أمرهن» فهي التي قادت «عملية تحريرهن» وهي «المفوضة» لاستكمال دورها في حماية مكاسبهن وحقوقهن. ويعتبر هؤلاء أن هذه «الاستقالة السياسية» المتفشية في أوساط النساء التونسيات تشكل ابرز نقاط ضعفهن اجتماعياً وسياسيا.

مع ذلك لا تخلو الساحة النسائية المحلية من وجوه نسائية نشيطة سواء داخل أجهزة الحكم او في صفوف المعارضة. آخر مثال على ذلك المحامية راضية النصراوي التي شنت في مطلع هذا الصيف اضرابا عن الطعام استمر اكثر من شهر طالبت من خلاله باطلاق سراح زوجها حمة الهمامي (زعيم حزب العمال الشيوعي التونسي) المحكوم عليه بثلاث سنوات سجنا بعد لجوئه الى السرية سنوات عدة. وراضية النصراوي - على رغم توجهها اليسارى - عرفت بدفاعها عن كل مساجين الرأي بمن في ذلك المعتقلون الاسلاميون. كما اشتهرت بمناهضتها الشديدة لتعذيب الموقوفين والسجناء. اما الصحافية الناشطة الحقوقية سهام بن سدرين فأصبحت اشهر من نار على علم بعد ايقافها فترة وجيزة وتطوع اكثر من 350 محامياً للدفاع عنها. وبن سدرين ناطقة باسم جمعية للدفاع عن حقوق الانسان لم تتحصل بعد على الرخصة القانونية وتحمل اسم «المجلس الوطني للحريات في تونس» الذي يصدر تقارير دورية عمّا يراه تجاوزات خطيرة في هذا المجال. أما «الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات» فهي منظمة نسوية صغيرة لكنها نشيطة ومستقلة، تتميز بكونها ربطت بين نضالها من أجل تحقيق المساواة المطلقة بين النساء والرجال وبين المسألة الديمقراطية، وتصر على رفض تحويل مسألة تحرير المرأة الى ورقة سياسية بيد الحكم او الوصول الى الحكم. وهو ما أدى بهذه الجمعية الى الاصطدام في اكثر من مناسبة مع السلطة، والوقوف إلى جانب القوى المدنية والسياسية المطالبة باحترام الحريات العامة والفردية. كما تعتبر من أشد المجموعات المناهضة للاسلاميين.

وما يلفت الانتباه أن السلطة غالبا ما تتحاشى اعتقال معارضيها من النساء ومحاكمتهن ووضعهن في السجون لفترات طويلة، خشية الطعن في صدقية خطابها السياسي الذي يتخذ من مقولة تحرير المرأة إحدى مرتكزاته الأساسية. لكن ذلك لم يمنع النظام من أن يضايق أو يحاكم أحيانا عددا من المناضلات اليساريات أو الناشطات في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان، وتكرر الأمر مع الإسلاميات - خصوصاً اللاتي كن يتحملن مسئوليات تنظيمية في حركة النهضة المحظورة - واللاتي تعرضن لمضايقات شديدة وللإيقاف والمحاكمة خصوصاً خلال مرحلة التسعينات.

وغادر جميعهن السجون، وسويت ملفات العديد منهن، لكن البعض ما زلن يتعرضن لصعوبات اقتصادية واجتماعية خصوصاً بالنسبة لارتداء الحجاب أو الحصول على عمل أو وظيفة حكومية.

المعركة الصامتة

هذا الانقلاب الاجتماعي الذي حصل في حياة النساء التونسيات أكسبهن الكثير من الحصانة القانونية والثقة القوية بالنفس، لكنه في المقابل جعلهن يواجهن ظواهر جديدة ويخضن «معركة» مستمرة - مكشوفة حينا وخفية في معظم الأحيان - وهي معركة فرض الذات والنفوذ داخل الفضاءات الأسرية والاجتماعية. فعدد واسع من الرجال - بمن في ذلك متعلمون ومثقفون - لا يزالون يعتبرون أنهم فقدوا احتكار القرار داخل الأسرة وأن سلطتهم تضررت أخيراً كما أن احتلال مسألتي الدراسة والشغل مكانة رئيسية في أولويات الفتاة التونسية نتج عنه في السنوات الأخيرة تأخر سن الزواج الذي تراجع من 21 سنة في العام 1970 إلى حوالي 26 سنة حالياً. وتذكر مجلة (الملاحظ) أن العنوسة في تونس بلغت العام 1999 نسبة 37,4 في المئة وهي ظاهرة أخذت تقلق عدداً واسعاً من العائلات التونسية، وأخذت تدفع بفتيات من كل الأعمار والفئات الاجتماعية والمستويات الدراسية والمهنية إلى التأقلم والتكيف مع حياة الوحدة والاعتماد على الذات. كما أن ظاهرة الطلاق هي الأخرى تضخمت قليلا خلال السنوات الأخيرة خصوصاً في صفوف الزيجات الحديثة (من سنة إلى 5 سنوات زواج)، وهو ما يشير إلى وجود أزمة علائقية وفقدان القدرة على التعايش وحسن إدارة الخلافات الأسرية واستمرار نزاعات السيطرة والتملك.

هذه الظواهر الجديدة، يراها البعض مؤشرات خطيرة تتطلب القيام بمراجعات أساسية على أكثر من صعيد، بينما يتعامل معها البعض الآخر على اعتبارها إفرازات طبيعية لتحولات اجتماعية تتجاوز الإطار التونسي وتشمل مختلف المجتمعات البشرية. لكن الأكيد أنه بعد 45 عاما من تغيير التشريعات لصالح المرأة لا يزال النقاش في تونس مستمراً عن دور النساء في بناء مجتمع ناهض ومتماسك وفعال.

كاتب تونسي

العدد -8 - الخميس 05 سبتمبر 2002م الموافق 27 جمادى الآخرة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً