انسحبت الحكومة السودانية من مفاوضات كينيا (مساكوش) مع المتمردين الجنوبيين بعد استيلاء قوات جون قرنق على مدينة توريت في الجنوب. وأعلن عمر البشير بعد ضربة توريت «التعبئة العامة والاستنفار الشامل» للرد على غدر قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان».
ويذكر أن المتفاوضين توصلوا قبل الضربة الأخيرة الى مجموعة تفاهمات دستورية كان يتوقع لها ان تسهم في وقف الحرب الأهلية في مناطق انتشار قوات قرنق... إلا أن الهجوم العسكري الأخير أحبط تلك التفاهمات التي أغضبت مصر ولم تكسب قرنق.
المفكر والسياسي السوداني محمد أبو القاسم حاج محمد قرأ اسباب ذلك الغضب قبل حصول ضربة توريت وتداعي «اتفاق مساكوش».
في الفترة ما بين 18 يونيو/ حزيران و20 يوليو/ تموز من العام الجاري 2002 عقد وفد حكومة «الانقاذ» مباحثات مع وفد «الحركة الشعبية لتحرير السودان» في ضاحية «مشاكوس» قرب العاصمة الكينية «نيروبي».
فوجئ كثيرون «بمذكرة التفاهم» التي وقعها الطرفان، ولكن أكثرهم مفاجأة كان الطرفان اللذان وقعا المذكرة، اذ كانا حزما حقائبهما للرحيل بعد جلسات مارسا فيها «حوار الطرشان».
فلحكومة الانقاذ «ثوابتها الاستراتيجية والتكتيكية وكذلك لحركة قرنق. وثوابت الطرفين «متناقضات» تماماً بحيث يصعب بينها التوفيق.
فما هي ثوابت قرنق تكتيكاته؟
يرى العقيد جون قرنق دي ميبيور وفقاً للبيان «المانفستو» الصادر لدى تأسيس الحركة بتاريخ 31 يوليو 1983 ضرورة السعي لقيام نظام «علماني» و «ديمقراطي» في كل السودان المتوحد، متخذاً من التحالف ما بين حركته «الجنوبية» التي تستند اساساً على قبائل «الدينكا» ذات الغالبية هناك و «الاثنيات - العرقيات» غير العربية في الشمال قاعدة اجتماعية وسياسية وثقافية لبناء «سودان جديد» - يتجاوز «هيمنة العرب» في «مركز الوسط» من السودان الحاكم. وأشار إلى هذه الاثنيات غير العربية في الشمال بتعبير «المناطق المهمشة»، فما نفستو قرنق يستخدم تعبير المناطق المهمشة «كرديف إصطلاحي للاثنيات غير العربية»، محاولاً استقطاب ولائها ضد «المركز» في وسط الخرطوم الذي يحكمه «العرب».
وهنا تحديداً ملخص الفقرات (5 و6 و7 و8) في الفصل الثاني من «المانفستو» بعنوان «جذور حركات التحرير في المناطق المتخلفة في السودان». ثم طرح المانفستو «جزرة الاشتراكية» امام هذه الاثنيات وفي إطار السودان «الجديد» العلماني الديمقراطي المتوحد.
وقد حملت مجلة «مسارات جديدة» التي تبشر بسودان قرنق «الجديد» عبر اقلام «شمالية» في عددها الأول الصادر في اغسطس/ آب 1988 «برنامج العمل» التوجه «الاثني العرقي» ذاته حتى ان احدهم مضى ليقارن بين عرب الشمال السوداني وما كان عليه العنصريون البيض في جنوب افريقيا.
فطموحات قرنق تتطلع إلى سودان موحد في إطار من التوجه نحو «شرق إفريقيا» الاستوائي السواحيلي» ما بين الكونغو غرباً وكينيا وتنزانيا شرقاً مروراً بيوغندا. اما «الديمقراطية» و «العلمانية» و«الاشتراكية» فهي «ديباجة» زائفة لان هذه الشعارات تستند علمياً إلى قاعدة «اجتماعية» ترقى على البناء «القبلي» الذي يستند إليه قرنق في الجنوب، كما ان الخطاب الاشتراكي الديمقراطي العلماني لا يؤسس على التحالف مع القوى الاثنية والعرقية وإنما على التحالف مع «القوى الاجتماعية الحديثة»، في حال طرح قرنق برنامج حديث «وحدوي» فإنه يستند إلى اكثر قوى المجتمع تخلفاً.
سبق للورد كرومر الذي كان حاكما بريطانيا فعلياً لمصر والسودان العام 1982، بعد فشل ثورة أحمد عرابي، وبداية اندلاع الثورة المهدوية في السودان أن أمر الحكومة المصرية «بإخلاء السودان» عبر قواتها في كينيا ثم ضمه لشرق افريقيا وإنهاء علاقته عبر قواتها في كينيا ثم ضمه لشرق أفريقيا وإنهاء علاقته بمصر.
فمعركة قرنق في السودان ليست معركة «جنوب» وإنما هي معركة «هوية» تتدثر بالمناطق «المهمشة» و«الاثنيات غير العربية» متمنطقة ظاهرياً لسودان «جديد» وشعارات علمانية وديمقراطية واشتراكية.
والفارق بين «كرومر» و«قرنق» أن كليهما يسعى وسعي للنتائج ذاتها ولكن مع فارق الموقع «الاستعماري» لكرومر والموقع «الوطني» لقرنق.
تنبه الدكتور بوناملوال أحد أبرز المثقفين والسياسيين الجنوبيين، ومن أبناء «الدينكا»، إلى أن قرنق يقود الجنوبين إلى معركة لا تتصل دوافعها بالجنوب ومشكلته بقدر ما تستهدف التعلّل والتذرع بالجنوب لتغيير «نظام الحكم» في الشمال وتغيير «هوية» الشمال، وهي معركة وصل ضحاياها إلى «مليوني» سوداني من الشمال والجنوب. فطالب ملوال بالتوجه مباشرة إلى ممارسة «حق تقرير المصير» و«الاستقلال» وذلك في افتتاحيته في مجلة سودان ديمقراتيك غازيت لشهر يونيو/حزيران 2000 في لندن. وسبق دبونا ملوال أن طرح من قبل «تعايش» الشمال والجنوب ضمن «نظامين في دولة واحدة» في كتابه (الشعب والسلطة في السودان) الصادر العام 1981.
أما موقف قرنق «الحقيقي» من نظامين في دولة واحدة أو «الكنفديرالية» بين شمال السودان وجنوبه فهو «موقف تكتيكي» يأتي على هامش مناوراته لفرض «سودانه الجديد» بالحيثيات التي ذكرناها. فمنذ أن طرح قرنق هذه الكنفديرالية في مباحثات نيجريا (أبوجا) العام 1993 اعتبر أن ضرورة الطرح «تكتيكية» كرد على ارتباط الدين بالدولة في الشمال. وصرّح رئيس تحرير صحيفة «الخرطوم» التي كانت تصدر في القاهرة بتاريخ 7 ديسمبر/ كانون الأول 1997.
وليؤكد قرنق على مدى الدافع التكتيكي لطرح الكنفديرالية مد حدود خريطة الجنوب الجغرافية إلى مناطق مجاورة للجنوب من شمال السودان، وهي مناطق «الانقسنا» و«آبيى» و«جبال النوبا» ودفع إليها بقواته حتى اضطر «نظام الانقاذ» لأن يعقد معه اتفاق وقف إطلاق النار في «جبال النوبا» تحت إشراف أميركي في بلدة بورغنستوك في سويسرا بتاريخ 19 يناير/ كانون الثاني 2002. وكان ذلك أول اعتراف من الانقاذ «بامتدادية» قرنق إلى الشمال نفسه.
كما نال قرنق - من قبل - اعتراف «التجمع الوطني الديمقراطي» السوداني المعارض، ومركزه في العاصمة الارتيرية أسمرا بالأوضاع الاستثنائية المميزة لهذه المناطق الثلاث من «شمال السودان» تحت ذريعة «تأثيرها» على أوضاع الحرب في الجنوب. فأصدر التجمع قرارات بشأن هذه المناطق فيما عرف «مؤتمر القضايا المصيرية» وذلك بتاريخ 15 وإلى 23 يونيو/ حزيران 1995 من «الباب الأول» البند «4» إذ ينص: أن المناطق المتأثرة بالحرب هي جنوب السودان ومنطقة الثلاث «حق تقرير المصير» وعبر «استفتاء» للانضمام إلى الجنوب أو الشمال وذلك في البندين (6 و7) من الباب الأول.
بذلك استطاع قرنق أن يكون «اللاعب الأساسي» لتقرير مستقبل هذه المناطق الشمالية الثلاث مع «التجمع الوطني الديمقراطي» المعارض في مؤتمر أسمرا (23/6/1995).
لهذا فكنفديرالية قرنق هي كنفديرالية «مناصفة» جغرافية بين «كيانين» في السودان، وبسوابق اعتراف المعارضة في أسمرا والانقاذ في سويسرا، وليست كنفديرالية بين شمال السودان وجنوبه علماً بأن مؤتمر آسمرا أقر بخيار هذه الكنفديرالية للمناطق الثلاث، إذ تخيّر المادة (2/ أ) في الباب الثاني الجنوبيين بين (الوحدة: فيدرالية و كنفديرالية، والاستقلال).
مع ذلك فهذه كلها «تكتيكات ضاغطة مؤقتة» يمارسها قرنق للاستحواذ على السودان «كله» بمنطق «سودانه الجديد».
فلا علاقة لكنفديرالية قرنق التكتيكية بما طرحه بونا ملوال حول هذه الكنفديرالية المرتطبة بالجنوب «حصراً» ضمن حدوده الإدارية العام 1965 على صفحات الصحف العربية في 26مايو/ آيار 1999، ولا حتى بما طرحته ورشة العمل التي أقامها «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» في واشنطن التي أوصت بنظامين في دولة واحدة في وقتها بتاريخ 20 فبراير/ شباط .2001
وهي ورشة العمل التي انطلقت من مقرراتها مهمة المبعوث الرئاسي الأميركي جون وان فورن إلى السودان الذي عينه الرئيس جورج بوش الابن بتاريخ 6 سبتمبر/ أيلول .2001
بعد سبعة أشهر من ورشة عمل المركز الذي ضم سودانيين أكاديميين من شمال السودان وجنوبه أبرزهم فرانسيس دينغ الذي قام بصياغة القرارات. وباشر المبعوث الرئاسي مهمته في السودان منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2001 وتكللت مهمته - حتى الآن - بالنجاح في اتفاق سويسرا على «جبال النوبا» وتفاهم «مساكوش» ولا يزال في جعبته الكثير.
كذلك فإن نظام الانقاذ ليس بعيداً عن القبول بنظامين في دولة واحدة وذلك منذ أن اتخذ حزب «المؤتمر الوطني» الحاكم قراراً في اجتماعاته 27 وإلى 30 سبتمبر 2000 يقضي بقبول نظام في الجنوب من «دون الكنفديرالية» بما يعني لدى الانقاذ «فيدرالية واسعة الصلاحيات».
فالدكتور قرنق قادر على استجماع قرارات ومواقف واتفاقات لصالح كنفديرالية «المناصفة» بين كيانين سودانيين، وليس كنفديرالية بين الشمال والجنوب، وقادر على ممارسة الامتداد السياسي والعسكري لاستقطاب المعارضين لنظام الانقاذ حتى من بين القوى «الطائفية» التي اتهمها قرنق في مانفستو 1983 ببسط «هيمنتها» العربية على الآخرين، وتهميشها «لمناطقهم كحلفه الراهن مع محمد عثمان الميرغني» (شيخ الطائفة الختمية) ورئيس التجمع الوطني الديمقراطي» ورئيس «الحزب الاتحادي الديمقراطي».فأوراق قرنق كلها «تكتيكيه» سواء في مباحثات أبوجا تحت مظلة «الايغاد» والرعاية الأميركية.
أما الهدف الاستراتيجي فهو الاستحواذ على السودان كله. فإلى أين سيمضي دانغورث مع مناورات قرنق وتكتيكاته؟
سياسي ومفكر سوداني
العدد -7 - الأربعاء 04 سبتمبر 2002م الموافق 26 جمادى الآخرة 1423هـ