العصر الحديث جلب معه المؤسسات التي لا غنى عنها لتسيير شئون الدولة والمجتمع... ووجدت الدول ضالتها في البيروقراطية التي تنظم الإجراءات الحكومية وتمكن الدولة من السيطرة على الأوضاع وتوجهها بحسب السياسة العامة للدولة. الا ان هذه البيروقراطية تمددت - عالمياً - بصورة لم يتوقعها أحد. وبعد الحرب العالمية الثانية أصبحت مؤسسات الحكومة تسيطر على كل شيء، حتى على الشركات الاقتصادية الكبرى. ومع الايام ازداد حجمها وأصبحت عبئاً على موازنة الدولة وتسبب تعطيلاً لمعاملات الناس وخنقاً للاقتصاد.
وعلى هذا الاساس بدأ الاشمئزاز من كلمة «بيروقراطية» ينتشر على رغم ان الحكومة لا تستطيع ممارسة مهمات من دونها. وعلى هذا الأساس بدأت حركة عالمية «لتخصيص» القطاع العام، بمعنى آخر ان تتخلى البيروقراطية الرسمية عن الاقتصاد وتسلمه للقطاع الخاص الذي سيكون اكثر حرصا على الأرباح والخسائر من الموظف الحكومي الذي لا يهمه كثيراً ذلك الأمر، بقدر ما يهمه الاستمرار في عمله وفرض شروطه الحكومية لتسيير الأمور.
وهكذا ايضاً نشطت الدعوة إلى أن تتخلى الدولة عن الخدمات الأهلية وتسلمها للجمعيات الأهلية (أو ما يطلق عليه المجتمع المدني)، لان الجمعيات الأهلية هي الأكثر قربا من الناس ، وهي الاكثر تأثرا بمساندة أو عدم مساندة الناس لبرامجها. وهكذا ايضا نشطت الدعوة إلى أن تسمح الدولة للقطاع الخاص بتوفير الخدمات الأساسية في مختلف المجالات التعليمية والصحية وحتى ادارة السجون وغيرها.
ونحن في البحرين من احوج الناس إلى التخفيف من البيروقراطية وتقليل الوزارات والدوائر الحكومية وغيرها. فلو قارنا أنفسنا مع سنغافورة أو دبي فسنجد ان البحرين لديها وزارات ودوائر مترهلة، وهذه الدوائر تحتاج إلى موازنة كبرى ولربما اختفى البرنامج الاصلاحي داخل الماكنة الضخمة ولا يستطيع الخروج منها سالماً. وذلك ليس لسوء نية هنا او هناك ولكن اساساً البيروقراطية الضخمة لا تستطيع ان تكون مرنة ولا تقبل اعادة التشكيل بالسرعة التي يتطلبها اي مشروع اصلاحي. فالبحرين لديها خمسة اضعاف المؤسسات الحكومية الموجودة في بلدان اخرى مماثلة لها في الحجم. والترهل البيروقراطي له أثر مشابه للترهل في الجسم لدى الانسان: يثقل الحركة ويلتهم الأكل (أو المال) ولكن من دون فوائد للجسم.
وفي عالم اليوم هناك أمثلة ناجحة للتخلص من ترهل البيروقراطية ولن نحتاج إلى اختراع وسائل جديدة، بل كل ما علينا هو دراسة تلك التجارب. وهذا ليس عيباً، بل حتى اليابان بدأت حديثا برنامجاً حكومياً للتخلص من عدد من مؤسسات الدولة وبدأت بتسليمها للقطاع الخاص. وحتى وزارة التجارة الدولية اليابانية (التي كانت تفتخر في الثمانينات بأنها افضل وزارة تجارية في العالم) اكتشفت ان الزمن تغير وبدأت برنامجاً للتخلص من كثير من اجراءاتها البيروقراطية لاعادة تنشيط الاقتصاد الياباني.
الاشكالية، اذن، في معرفة الطريق الأفضل، وفي تنفيذ عملية التخلص من الترهل ولكن بصورة عادلة وخاضعة للشفافية المطلوبة دولياً لإثبات وجود ديمقراطية في اي نظام ما
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد -7 - الأربعاء 04 سبتمبر 2002م الموافق 26 جمادى الآخرة 1423هـ