عاشت الولايات المتحدة في 4 يوليو/ تموز الماضي هواجس مؤامرة قيل ان تنظيم القاعدة (اسامة بن لادن) خطط لها بهدف ضرب عشرات المدن والمواقع المدنية في شرق البلاد وغربها.
واستقت ادارة البيت الابيض معلوماتها من مصادر منتشرة في العالم اجمعت كلها على احتمال حصول اعمال خطيرة في ذكرى استقلال اميركا عن بريطانيا. وعممت الاجهزة الامنية تلك المخاوف على كل الولايات مثيرة الحذر والرعب والتوتر تحسبا لتكرار ما وقع في 11 سبتمبر/ ايلول الماضي.
ومر يوم الرابع من يوليو من دون ان تتحقق معلومات «المؤامرة». وباستثناء حادث الهجوم المعزول على مكاتب شركة «العال» الاسرائيلية في مطار لوس انجليس لم تسجل الاجهزة الامنية حوادث اخرى سوى تلك التي تقع يوميا في عشرات المدن الاميركية.
خلاصة الامر ان فكرة المؤامرة والعيش في ظلالها وتحت تأثيرها النفسي (المرضي) انتقل في العقد الاخير من ظاهرة عالمثالثيه تقول بها الدول التابعة الى ظاهرة عولمية (عالمية) باتت الدول المتبوعة تعيش هواجسها ومخاوفها. والتساوي في مسألة المؤامرة ربما يكون من احدى حسنات العولمة.
فمن اين اتت نظرية المؤامرة وكيف تعولمت فكريا؟.
انقسم علماء السياسة على فكرة «المؤامرة». فهناك فريق يرفضها ويرى فيها مجرد خرافة اخترعها بعض المفكرين لتبرير سياسات او الدفاع عن اخرى. وهناك من يقبل بها جزئياً ويرى ان التآمر طبيعة بشرية يمارسها الكل بتفاوت وبحسب النسبة المئوية لموازين القوى.
غير ان مسألة الخلاف لم تقتصر على فريقين. فهناك فريق ثالث تبنى فكرة «المؤامرة» ورفعها الى درجة عليا في صنع التاريخ البشري محولاً عناصرها المشتتة الى «نظرية» متكاملة الشروط. فالمؤامرة عند هذا الفريق ليست خرافة بل حقيقة يمكن تفسير كل الحوادث والتطورات في ضوء مخططها الثابت الذي يصنعه بعض الناس من دون وعي من البعض الاخر.
فالعالم بحسب اصحاب نظرية «المؤامرة» ينقسم الى فئتين: اقلية واعية تتآمر على العالم لتنفيذ مخططاتها الجهنمية، واكثرية ساذجة تضحي بحياتها ومصالحها وماضيها ومستقبلها من اجل «حفنة» من المجرمين قرروا السيطرة على العالم وموارده.
ويعتبر المفكر الاميركي ويليام غاي كار ابرز قادة الفريق الثالث الذي انطلق من تجربته الخاصة للتنظير لفكرة المؤامرة ورفعها الى مستوى القانون الثابت الذي يحرك البشر باسلوب خفي ومن وراء الكواليس.
بدأت مغامرة كار في العام 1911 حين انتسب الى تنظيم سري في فلوريدا وشرع يمارس نشاطه السياسي فارتقى السلم التنظيمي الى ان وصل الى اعلى الدرجات فاكتشف السر في العام 1950 ولاحظ ان الحروب والثورات مجرد مؤامرات ينفذها البشر من دون وعي منهم لمصلحة فئات كاسرة، تقبع في الخفاء، تريد السيطرة على موارد الشعوب وحياتهم.
وفي اكتوبر (تشرين الاول) 1958 قرر كار التقاعد وكتابة مذكراته بدءاً من تجربته وصولاً الى فضح كل ما يملك من معلومات عن تاريخ التآمر ومدارسه المنتشرة في العالم.
حمل كتاب كار عنوان «احجار على رقعة الشطرنج». ويلخص العنوان كل النظرية. فالاحجار هم البشر (شعوب الارض) والرقعة هي المخطط (المؤامرة) واللاعب هو الطرف الخفي الذي يحرك الاحجار وينقلها من مربع الى آخر. يقابله لاعب آخر يساهم في اللعبة ينقل الاحجار المضادة (أسود - أبيض) من مربع الى آخر.
كيف بدأت عقلية التآمر؟
يرى كار ان مؤسس نظرية التآمر في العالم الحديث هو آدم وايزهاويت (استاذ يسوعي للقانون في جامعة انفولد شتات الالمانية). ارتد وايزهاويت عن المسيحية في العام 1770 وساهم بطلب من عائلة روتشيلد اليهودية البريطانية في تنظيم مؤسسة خاصة بالعائلة.
وفي العام 1776 انهى وايزهاويت تأسيس «كنيس شيطاني» اطلق عليه اسم «جماعة النورانيين» ومخططه، كما يقول كار، تدمير الحكومات والاديان عن طريق تقسيم الشعوب الى فئات خيرة وفئات شريرة. والشر برأي كار، صاحب النظرية، يجب ان ينتصر في النهاية على الخير بواسطة التآمر وضرب القوى ببعضها بعضاً.
و اتخذ وايزهاويت من مدينة فرانكفورت مركزاً لقيادته واستمر تنظيمه يعمل في المانيا بتمويل من أسرة روتشيلد الى قبل نهاية القرن الثامن عشر. وبعدها انتقل الى سويسرا بعد انكشاف امره وحصول مواجهة مع حكومة بافاريا المحلية سنة 1786.
بعد وفاة وايزهاويت اختار «النورانيون» الزعيم السياسي الايطالي جيوسيبي مازيني مديراً لبرامجهم «التخريبية» في العام 1834. ونجح مازيني في العام 1840 في تنظيم الجنرال الاميركي البرت بايك في جماعة «النورانيين» وسرعان ما اصبح الاخير زعيماً للتنظيم.
اتخذ بايك في العام 1840 من بلدة ليتل روك في ولاية اركنساس مركزاً لعمله في الولايات المتحدة. وبحكم خبرته في قيادة الجيش الاميركي قام بايك باعادة تنظيم «جماعة النورانيين» بافق عالمي ووفق ضوابط عسكرية حديثة. فاسس ثلاثة مجالس عليا اسماها البالاديه: الاول في تشارلستون (ولاية كارولينا الجنوبية)، الثاني في روما (ايطاليا)، والثالث في برلين (المانيا). وعهد الى معلمه الاول مازيني بتأسيس 23 مجلساً في اوروبا، وابقى على المجلس السويسري بصفته ثاني اقدم تنظيمات «النورانية» في العالم.
ويدعّي كار في كتابه عن المؤامرة ان الجنرال بايك وضع بين العام 1859 والعام 1871 سيناريوات لافتعال ثلاث حروب عالمية وثلاث ثورات كبرى تنتهي كلها في نهاية القرن العشرين. ويقول كار ان رسالة من رسائل بايك مؤرخة في اغسطس (آب) 1871 موجودة الان في المتحف البريطاني.
ويقول كار ان مجموعة سويسرا استمرت تقود التنظيم الاوروبي مستفيدة من حياد دولة سويسرا وعدم انجرارها الى حروب القارة الاوروبية. الا ان امرها انكشف في نهاية الحرب العالمية الثانية فانتقلت القيادة الى نيويورك وتحديداً في مبنى هارولدبرات. وبانتقال القيادة من سويسرا الى نيويورك حلت اسرة روكلفد مكان اسرة روتشيلد في تمويل نشاطات «التنظيم النوراني».
اهم ما في نظرية كار عن «المؤامرة» ليس تاريخها بل افعالها، فهو يدعي ان «النورانيين» ساهموا في تأسيس ثلاث حركات عالمية لتدمير العالم وهي: الشيوعية، والنازية، والصهيونية.
وانها ساهمت في افتعال ثلاث حروب وثلاث ثورات. ولعبت دوراً في تدمير القيصرية في روسيا ومساعدة الشيوعيين للوصول الى الحكم لنشر الالحاد والتحلل الخلقي.
ولعبت دوراً في اثارة الخلافات بين المانيا وبريطانيا لاضعاف اوروبا. وكذلك دبرت كل الخلافات التي اندلعت بين النازية والصهيونية لتبرير قيام دولة «اسرائيل» في فلسطين المحتلة.
ليس هذا فقط، بل يحذر كار من مخطط جديد لبدء الحرب العالمية الثالثة تبدأ باثارة النزاع بين الحركة الصهيونية العالمية والعالم الاسلامي لتدمير بعضهما بعضاً. وتوقع كار ان تكون تلك الحرب الثالثة مدبرة ومنتهية في نهاية القرن العشرين ليبدأ حكم «الاشرار» بعد الخلاص من اليهود والعرب في الان.
حتى الان لم تندلع الحرب العالمية الثالثة التي توقعها كار في كتابه الصادر في نهاية خمسينات القرن الماضي. الا ان نظرياته عن المؤامرات فعلت فعلتها وتركت بصماتها على اكثر من صعيد ايديولوجي وفي مختلف المستويات والمدارس السياسية في العالمين الاميركي والاوروبي وكذلك في العالمين العربي والاسلامي.
وخطورة نظرية المؤامرة انها تدفع الناس في النهاية الى الاحباط والانتظار و القعود وترك المسائل تأخد مجراها ما دامت الامور «مفبركة» و «معلبة» و «مسيرة» من قبل جهات مجهولة يطلق عليها تسميات مختلفة لكنها في النهاية تتحكم بمسار الكون وتتحدى البشر والصانع من دون رادع او وازع.
واخطر ما في نظرية المؤامرة انها اقصت العقل وعطلت قدرته على التفكير والتحدي والمواجهة واحبطت كل حركة تغييرية تريد الخير العام وتطمح نحو اقامة الحد الادنى من العدالة بين البشر. وربما هذه هي المؤامرة الوحيدة من «النظرية».
والاخطر من كل ذلك ان النظرية شطرت علماء السياسة الى مدرستين: واحدة ترفضها واخرى تقبلها. بينما الصحيح هو ان الرفض المطلق خطأ والقبول المطلق خطأ اكبر. فالمؤامرة موجودة وعقلية التآمر مسألة واردة في كل الحالات، فهي في النهاية دلالة من دلالات تطور العقل وقدرة الاخير على السيطرة وتنظيم الامور والشئون.
فالاكاديميات العسكرية اليوم تدرس الجنرالات الكبار مبادئ سياسية لاستيعاب الازمات واحتواء الحروب وفق شروط موضوعية وعقلانية. كذلك هناك اكاديميات تدرس بعض كبار الجنرالات مبادئ افتعال الازمات لتبرير التدخل العسكري دفاعاً عن مصالح يحتمل ان تهددها قوى محلية بعد عشرات السنين.
المؤامرة موجودة وهي نتاج تقدم الانسان العقلي نحو السيطرة على قوانين الطبيعة والبشر... الا ان تفسير التاريخ وفق منهجية التآمر ليس دقيقاً لان «العقل» مهما كبر يبقى لعبة صغيرة في مجرى الزمان
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد -4 - الأحد 25 أغسطس 2002م الموافق 16 جمادى الآخرة 1423هـ