بدأت في 12 أغسطس/ آب المرحلة الثانية من المفاوضات السودانية بين حكومة الرئيس عمر البشير والمعارضة التي يقودها جون قرنق.
وباشر المتفاوضون اجتماعاتهم بحضور خبراء في مجالات قسمة السلطة و الثروة والترتيبات العسكرية من الولايات المتحدة وبريطانيا وايطاليا والنروج.
وينتظر ان تبحث الاطراف التي وقعت «بروتوكول مكاكوس» اربع مسائل لم تحل بينها تتعلق باقتسام السلطة، وتوزيع عائدات النفط، ووثيقة حقوق الانسان، ووقف اطلاق النار.
خيمت على المؤتمر أجواء الهجمات العسكرية المتبادلة بين الطرفين في منطقة الجنوب في وقت أيد الجيش السوداني الاتفاق وحذرت جامعة الدول العربية من مخاطره على وحدة البلاد.
ويشوب الغموض بعض نقاط «البروتوكول» وهي تلك المتصلة بعلمانية القوانين القومية، ومسألة التنوع الديني والثقافي، والاطار الدستوري للفترة الانتقالية، وصيغة الاستفتاء، ومدى صلاحيته في تقرير الوحدة او الانفصال.
وفي حال توصلت الاطراف المتفاوضة الى الاتفاق على المسائل الخلافية المتبقية في اغسطس الجاري يكون السودان دخل مرحلة خطيرة في تكوينه السياسي منذ استقلاله في العام 1956.
ويذكر ان الطرفين اعلنا في نيروبي في 20 يوليو/ تموز الماضي التوصل الى اتفاق يركز على نقطتين: دور الاسلام ومكانته في البلاد، وحق تقرير المصير. واطلق على الاتفاق الذي احيطت بنوده بالسرية «بروتوكول مكاكوس»... ومكاكوس بلدة كينية تقع على بعد 63 كيلو متراً عن العاصمة نيروبي.
وعلى اثر اعلان ما سمي بإطار اتفاق للتفاوض رأت مصادر سياسية مطلعة ان الخلاف بين الطرفين سيستمر في شأن مساحة الحدود الجغرافية لمنطقة الجنوب، ونسبة مشاركة الفئات الجنوبية في الحكومة القومية في الخرطوم، وكيفية التوفيق بين جيشين وادارتين في منطقة واحدة.
وأعربت تلك المصادر عن شكها في امكان نجاح المرحلة الثانية من المفاوضات بسبب غموض بنود «بروتوكول مكاكوس» وعدم وضوحها في تحديد الاطر القانونية لمسألة حق تقرير المصير لشعب الجنوب، والمساحة الجغرافية لمنطقة الحكم الذاتي. فالبروتوكول - كما تقول المصادر- اكتفى بإعلان المبادئ العامة والمقدمة التمهيدية المتصلة بحق تقرير المصير وعلاقة الدين بالدولة، تاركاً المسائل الجوهرية للفترة الانتقالية التي حددها البروتوكول بست سنوات تبدأ بعد ستة أشهر من توقيع «الاتفاق النهائي».
وجاءت فكرة «الفترة الانتقالية» في مرحلة المفاوضات الاولى التي تمت بحضور مراقبين من الولايات المتحدة وبريطانيا وايطاليا والنروج وبعض الدول الافريقية وبإشراف منظمة الهيئة الحكومية للتنمية (ايغاد)، للخروج من مأزق عدم التفاهم على الصيغة القانونية النهائية التي تمنع تفكيك السودان مستقبلاً. وبسبب صعوبة التكهن لجأ المتفاوضون إلى الاتفاق على اجراء استفتاء بإشراف دولي لتحديد الاطر القانونية للحكم الذاتي في الجنوب. واتفق ايضاً على ان يتم الاستفتاء في نهاية الفترة الانتقالية.
وخلال الفترة المذكورة ستتولى حكومة وطنية عريضة ادارة شئون الدولة في الخرطوم على ان تُعطى الاقاليم الجنوبية نسبة معينة من الحكم الذاتي.
خلافات وتحفظات
ما كادت الاطراف تعلن توصلها الى اتفاق ينهي الحرب الاهلية المستمرة في الجنوب منذ 20 سنة (اندلعت في 1983) وأدت الى نزوح اربعة ملايين ومقتل اكثر من مليون نسمة، حتى برزت وجهات نظر مختلفة في تفسير «البروتوكول» الذي لم تعلن تفاصيل بنوده... الامر الذي اثار شكوك المعارضة فأبدت تحفظاتها عليه وتمسكت بضرورة اعلانه في ظل «سيادة الديمقراطية» واجماع مختلف الفئات السودانية عليه.
من جهة التفسيرات المتباينة برزت خلافات على ثلاث نقاط:
الاولى: المساحة الجغرافية للجنوب. فالحكومة تتمسك بحدود 1956 (تاريخ استقلال السودان) بينما تضيف المعارضة الى الجنوب منطقة النيل الازرق وجبال النوبة ومنطقة أيبي.
الثانية: مناطق العلمانية ومناطق الشريعة الاسلامية. فالحكومة ترى ان الشريعة ستطبق في المناطق الشمالية ولكنها ستكون مصدر تشريع للحكومة المركزية (الحكومة القومية) بينما ترفض المعارضة ان تكون الشريعة مصدر تشريع للحكومة المركزية - الثنائية.
الثالثة: علاقة الدولة السودانية بالدين ومستقبل الجنوب في اطار وحدة البلاد. فالبروتوكول نص على اطار عمل يرضي الطرفين حين استثنى الجنوب من تطبيق الشريعة إلا ان الحكومة ترى ان تطبيق الشريعة صحيح انه يقتصر على المناطق الشمالية، ولكن على القوانين الاتحادية ألاّ تخالف روح الشريعة. بينما ترى المعارضة ان القوانين الاتحادية يجب ألاّ تؤخذ من الشريعة التي يقتصر تأثيرها على قوانين الحكومة المحلية في مناطق الشمال.
وعلى اثر ظهور التفسيرات المتباينة لبنود «البروتوكول»، السرية والغامضة، اخذت احزاب «المعارضة الشمالية» في اصدار بيانات تحذر من خطورة الموقف متوقعة فشل «البروتوكول» كما سبق وفشل الاتفاق السابق الذي وُقع في عهد الرئيس جعفر النميري في العام 1972 بين الخرطوم و«حركة انيانيا». واشارت احزاب المعارضة الشمالية الى «ضغوط قوية» مارستها دول الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة على حكومة البشير، بعد ضربة 11 سبتمبر/ايلول 2001، و سرعة تلبية حكومة «الانقاذ» في الخرطوم طلبات واشنطن ومساعدتها في تقديم المعلومات عن «شبكات الارهاب» في حربها الدولية التي بدأت في افغانستان.
وحتى ينقشع الضباب المحيط بالمرحلة الثانية من مفاوضات «مكاكوس» انكشفت سياسات احزاب المعارضة الشمالية على سلسلة مواقف غير موحدة. فحزب الامة رحب مبدئيا بالاتفاق ولكنه انقسم على نفسه بخصوص المشاركة فذهبت مجموعة مبارك الفاضل الى المفاوضات وقاطعتها القيادة التاريخية للحزب الممثلة بزعيمها الصادق المهدي. ورحب «التجمع الوطني الديمقراطي» بالاتفاق ولكنه شكك في ان يحقق السلام الشامل والعادل. بينما رأى «الحزب الاتحادي الديمقراطي» ان الاتفاق لن يؤدي الى حل الأزمة السودانية.
وهذا صحيح. فالأزمة اكبر من منطقة جنوب السودان وليس سببها العلمانية والاسلام ولا ما يسمى تسلط الشمال على الجنوب بل هي ازمة تطاول بنية النظام الاقليمي في القرن الافريقي ودور شركات النفط الدولية في تحريك عواصم القرار وحثها على التحرك الدبلوماسي لضبط الوضع الأمني في سياق رؤية مختلفة لخريطة المناطق. فالشركات ترى ان التقسيم الاداري للدول الافريقية تم وفق تصورات استعمار القرن الماضي ولابد من اعادة النظر في تفصيلاتها لتناسب مصالح «النظام العالمي الجديد» الذي تنفرد الولايات المتحدة بقيادته الآن... فالشركات، مستفيدة من تداعيات ضربة 11 سبتمبر، شجعت على التفاوض مستغلة ضعف حكومة السودان وعزلتها لوضع اطر قانونية تقلل من نفوذ الخرطوم في الجنوب وتؤسس حكومات محلية قد تؤدي مستقبلاً الى توحيد اقاليم الجنوب وتقسيم شمال البلاد.
كاتب من اسرة تحرير «الوسط»
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد -2 - الإثنين 19 أغسطس 2002م الموافق 10 جمادى الآخرة 1423هـ