شهدت اسواق المال الاميركية اسوأ أيامها منذ ضربة 11 سبتمبر/ايلول 2001 حين انخفضت قيمة الاسهم المتداولة الى ادنى درجاتها ورجعت الى مستويات اقل مما كانت عليه في منتصف العام 1997 وخريف العام 1998. ففي يوليو/تموز الماضي انكشفت فضائح سياسية جديدة طاولت شركات ضخمة اعتبرت الى وقت قريب من اعمدة النظام الاقتصادي الاميركي. فانعكست تأثيراتها النفسية على المواطن والمستثمر في سوق الأسهم. وتعتبر «داو جونز» الحاضنة للشركات الصناعية الثلاثين الكبرى، و«ونازداك» وهي مجمع شركات التكنولوجيا، و«ستاندرد اند بورز» وتمثل اكبر 500 شركة ، ابرز اسواق المال الرئيسية. وألحق الانهيارُ خسائرَ بالمستثمرين فيها قُدرت بنحو 8,6 تريليون (8 الاف و 600مليار) دولار مطيحة بالمكاسب الاجمالية التي حققتها المؤشرات من منتصف العام 1997 الى الربع الاول من سنة 2000. وطاولت الخسائر مصالح ما لا يقل عن 80 مليون اميركي.
وجاءت الانهيارات الاخيرة بسبب الذعر السياسي الذي اصاب الاسواق المالية، وفقدان الثقة في بيانات الشركات، وتوقعات الارباح المتواضعة. وزادت الفضائح المحاسبية الطين بلة فتدحرجت اسعار الاسهم ضاربة انشطة «الصناديق الاستثمارية» التي يراهن عليها الاميركيون لضمان مستقبلهم بعد بلوغ سن التقاعد. ولا تقتصر الخسائر على المستثمرين الاميركيين بل انها تشمل الكثير من المستثمرين الدوليين، اضافة الى سلبيات ناجمة عن صلة حلقات اسواق المال ببعضها، وهيمنة السوق الاميركية على ما نسبته قرابة 34 في المئة من القيمة الاجمالية للاسهم المتدوالة في اسواق المال العالمية. فالقيمة السوقية الدولية بلغت في نهاية 1999 نحو 35 تريليون دولار ثم تراجعت في العام 2001 الى 26,6 تريليون دولار. وبلغت حصة الاسهم الاميركية منها 17,5 تريليون دولار، وحصة بورصة لندن 2,6 تريليون دولار.
ولا تقتصر سلبيات الانهيار المالي على توظيفات المستثمرين بل تمتد تداعياتها لتشمل معظم القطاعات الاقتصادية بما فيها تراجع القوة الشرائية وانكماش الاسواق وارتفاع نسبة العاطلين عن العمل.
وفي الحقيقة ان انهيار القيمة التداولية للاسهم اختتم سلسلة تراجعات اقتصادية اسهمت في تأسيس عناصر الازمة الدولية التي تعاني منها الآن الاسواق المالية. فمنذ العام 1990 دخل الاقتصاد العالمي في فضاء سياسي ساخن بعد انهيار «الحرب الباردة» عبَّر عن نفسه بالازمة الخانقة التي اصابت اقتصادات «نمورآسيا» نتيجة الصدمة التي اصابت «آسيا» بتراجع اهتمام واشنطن بدعم صناعات (التكنولوجيا، والمعلومات) الدول الحليفة لها لمواجهة ما كان يسمى بالخطر الشيوعي.
وبسبب اختلاف الاولويات السياسية للاستراتيجية الاميركية في آسيا تركّز اهتمام واشنطن على تنشيط اقتصادها الداخلي بالحد من منافسة «نمور آسيا» واستقطاب اموال المستثمرين لتطوير تكنولوجيا المعلومات والطاقة. ونجحت واشنطن في التقدم خطوات مهمة الى الامام في عهد الرئيس السابق بيل كلينتون إلا أن ضربة 11 سبتمبر التي ترافقت مع اختلاف الاستراتيجية الاميركية بعودة الحزب الجمهوري الى البيت الابيض احبط خطط التطوير واستكمال الهجوم الاخير على «نمور آسيا». فالضربة التي ألحقت الخسائر المادية بالاقتصاد قللت من الهيبة السياسية الاميركية. ثم كرّت سلسلة ضربات موجعة هزت الثقة الدولية بالاقتصاد الاميركي مثل انهيار شركة «انرون» للطاقة الكهربائية (تبلغ دورتها السنوية 100 مليار دولار) وتلتها اعلان شركة «وورد كوم» للاتصالات عن افلاسها (اكبر افلاس في تاريخ الشركات)، ثم انهيار القيمة المتداولة للأسهم في الاسواق المالية. واخيراً اعلنت شركة «يوانس ارويز» للطيران افلاسها الاثنين الماضي (13 اغسطس) بعد خسارة صافية قدرت في نصف سنة بـ 248 مليون دولار.
قد تكون الانهيارات الاخيرة مؤقتة وربما تنجح الولايات المتحدة في تجاوزها إلا أن الاساسي في الازمة هو ان الاقتصاد الاميركي دخل في طور «الازمات الدائمة» فما يكاد يخرج من مشكلة حتى يدخل في اخرى.
وهذا يدل على مسألة حسّاسة لها صلة بالسياسة وليس بالمال. فالاقتصاد الاميركي لم يعد يتميزبالمرونة السابقة التي كانت تعطي لتوازن المصالح الدولية مكانها الطبيعي لنسج علاقات متوازنة بين الدول الكبرى. فواشنطن منذ العام 1991 استبدلت قوة التوزان بسياسة القوة وهي خطوة حققت بعض التقدم لسنوات قليلة ولكنها ستسهم في عزلة اميركا وتراجع اقتصادها لسنوات كثيرة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد -2 - الإثنين 19 أغسطس 2002م الموافق 10 جمادى الآخرة 1423هـ