تناولنا في الفصول السابقة أسماء قرود معروفة تحوَّلت في كتب التراث العربي إلى مخلوقات أسطورية ومتشيطن، وبقيت تلك الأسماء حتى يومنا هذا، وقد رجَّحنا في الفصول السابقة وجود علاقة بين العرب الأوائل الذين اصطنعوا تلك المخلوقات واليونانيين؛ إلا أن تلك العلاقة لا تبدو واضحة تماماً فيما تناولنا من مخلوقات، في هذا الفصل سنتناول نوعاً من القرود كان يعرف قديماً باسم «النسناس» ولايزال يعرف بالاسم نفسه حتى يومنا هذا. إلا أن كتب اللغة تصنف النسناس من المخلوقات الأسطورية وتصفه بأنه «نصف بشر» ويبدو أن وصف «أنصاف البشر» نشأ أول مرة عند العرب المتأثرين بالثقافة اليونانية؛ إذ اقتبست العرب من اليونانيين مسمى «نصف رجل» أي رجل له رجل واحدة يقفز بها وأسمته «الشق» ثم نقلت وصف الشق إلى النسناس، ولم تكتف بذلك بل نقلت وصف كائن أسطوري يوناني آخر إلى النسناس.
الشق كائن أسطوري اعتبر من المتشيطنة وللعرب عديد من القصص المرتبطة به، وقد جاء وصف «الشق» في كتاب حياة «الحيوان» للدميري: «الشِق بالكسر، قال القزويني: هو من المتشيطنة صورته صورة نصف آدمي، ويزعمون أن النسناس مركب من الشق ومن الآدمي، ويظهر للإنسان في أسفاره ... وأما شق وسطيح الكاهنان، فكان شق إنسان، له يد واحدة ورجل واحدة وعين واحدة، وكان سطيح ليس له عظم ولا بنان، إنما كان يطوى مثل الحصير».
ويبدو أن اسم «الشق» مترجم عن اليونانية فقد نقل بليني الأكبر (توفي العام 79م) في كتابه التاريخ الطبيعي عن المؤرخ اليوناني أكتيسياس (عاش في القرن الخامس قبل الميلاد) اسم قبيلة توجد في الهند أو إثيوبيا وهم بشر لا يمتلكون إلا قدماً واحدة يقفزون عليها وقد أطلق أكتيسياس على الواحد منها اسم Monocolus وهو اسم مكون من لفظين يونانيين معناهما «شق» أي من Mono وتعني واحداً و Coulon وتعني عضواً أو رجلاً برجْل واحدة. وبقي الوصف معروفاً في أوروبا بأسماء مختلفة حتى القرون الوسطى.
عرف اسم النسناس عند العرب منذ القدم حتى يومنا هذا بأنه نوع من القرود الصغيرة طويلة الذيل المعروفة أيضاً باسم الهجرس Monkey or Guenon وهو أنواع عدة، ولكن دخل على وصف هذا القرد عند العرب عديد من أوصاف الكائنات الأسطورية، ويبدو أنهم تأثروا باليونانيين في ذلك. يقول أمين معلوف في معجمه: «ذكر بلينيوس الشق والنسناس فسمى الأول منهما كما تقدم وسمى الثاني Satyrus أي السطر ووصفه بمثل ما وصف العرب النسناس، ولا يخفى أن هذه اللفظة معناها أيضاً صنم للسوريين كان في صورة نصف إنسان أي نصفه بشري والنصف الآخر من المعز ولعل اللفظة اليونانية من سطر السامية وهي بالعربية العتود من الغنم أي التيس، أو من مادة شطر أي جعل الشيء نصفين ولعل هذا الصنم عند السوريين» (معلوف 1985، ص 16).
ويلخص لنا صاحب معجم «تاج العروس» ما جاء عن النسناس في كتب اللغة وكتب التراث العربي: «النَّسْنَاسُ، بالفْتَحِ، ويكْسَرُ: جِنْسٌ من الخَلْقِ، يَثِبُ أَحَدُهم على رِجْل وَاحِدَةٍ، كذا في الصّحَاح. وفي الحَدِيثِ: أَنَّ حَيّاً من عادٍ عَصَوْا رَسولَهُم فمَسَخَهُم اللهُ نَسْنَاساً، لكلِّ إِنْسَانٍ مِنْهم يَدٌ ورِجْلٌ من شِقٍّ وَاحِدٍ يَنْقُزُونَ كما يَنْقُزُ الطَّائِرُ ويَرْعَوْنَ كما تَرْعَى البَهائِمُ ويُوجَدُ في جَزَائرِ الصِّينِ، وقيل: أُولئِكَ إنْقَرَضُوا، لأَنَّ المَمْسُوخَ لا يَعِيشُ أَكثَرَ من ثلاثَةِ أَيّامٍ، كما حَقَّقه العُلَمَاءُ، والمَوْجودُ علَى تِلك الخِلْقَةِ خَلْقٌ عَلَى حِدَةٍ، أَو هم ثَلاَثَةُ أَجْنَاسٍ: ناسٌ ونِسَنْاسٌ ونَسَانِس، قالَه الجاحِظُ، وأَنشد لِلْكُمَيْت:
فما النَّاسُ إِلاَّ تَحْتَ خَبْءٍ فِعالِهِمْ
ولَو جَمَعُوا نَسْنَاسَهُمْ والنَّسَانِسَا
وقيلَ: «النَّسْنَاسُ السَّفِلَةُ والأَرْزَالُ أَو النَّسَانِسُ: الإِنَاثُ مِنْهُم، كما قالَه أَبو سَعِيدٍ الضَّريرُ. أَو هُمْ أَرْفَعُ قَدْراً من النَّسْنَاس، كما في العُبَابِ أَو هُمْ يَأْجُوجُ ومَأْجُوجُ، في قولِ ابنِ الأَعْرَابِيّ أَو هُمْ قَوْمٌ مِن بَنِي آدَمَ، أَو خَلْقٌ علَى صُورَةِ النّاسِ، أَشْبَهُوهم في شَيْءٍ، وخَالَفُوهم في أَشْيَاءَ، ولَيْسُوا منْهُم، كما في التَّهْذيبِ». وقال كُراع: «النَّسْنَاسُ فيما يُقَال: دابَّةٌ في عِدَادِ الوَحْشِ، تُصَادُ وتُؤْكَلُ، وهي علَى شَكْلِ الإِنسان، بعَيْنٍ وَاحدَةٍ ورِجْلٍ ويَدٍ تَتَكَلَّم مثْلَ الإِنْسَانِ». وقَال المَسْعُودِيُّ في النّسْنَاسِ: «حَيَوَانٌ كالإِنْسَان، له عَيْنٌ وَاحِدَةٌ، يَخْرُجُ مِن الماءِ ويَتَكَلُّمُ، وإِذا ظَفِرَ بالإِنْسَانِ قَتَلَه». وفي «المُجَالَسة»، عن ابنِ إِسْحَاق: «أَنَّهُمْ خَلَقٌ باليَمَنِ». وقال أَبو الدُّقَيْشِ: «يُقَال: إِنَّهُم من وَلَدِ سامِ بن سامِ إِخْوَة عادٍ وثَمُودَ، ولَيْسَ لهُم عُقُولٌ، يَعيشُون في الآجَامِ على شَاطيءِ بحرِ الهِنْدِ، والعَرَبُ يَصْطَادُونَهُمْ ويُكَلِّمُونَهُمْ، وهم يَتكلَّمُون بالعَربيَّةِ ويَتَنَاسَلُون وَيَقُولُون الأَشْعَارَ ويَتَسَمَّوْن بأَسْمَاءِ العَربِ». وفي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضِيَ الله تَعالَى عنه: «ذَهَبَ النّاسُ وبَقِيَ النِّسْنَاسُ. قيل: فما النِّسْنَاسُ؟ قال: الَّذين يَتَشبَّهون بالنّاسِ ولَيْسُوا مِن النّاسِ»، وأَخْرَجَه أَبو نُعَيْمٍ في الحِلْيَةِ، عن ابنِ عَبّاسٍ. قال السُّيُوطيّ في «دِيوَان الحَيَوانِ»: «أَمّا الحَيَوَانُ الَّذي تَسَمِّيه العَامَّةُ نِسْنَاساً فهو نَوْعٌ من القِرَدَةِ، لا يَعيشُ في الماءِ، ويَحْرُم أَكْلُه، وأَمَّا الحَيَوانُ البَحْرِيُّ ففيه وَجْهَانِ، وإخْتَارَ الرُّويَانيُّ وغيرُه الحِلَّ». وقال الشيخُ أَبو حامِدٍ: «لا يَحِلُّ أَكْلُ النِّسْنَاسِ، لأَنَّه على خِلْقةِ بَنِي آدَمَ».
يتضح مما سبق أن للنسناس عند العرب أكثر من وصف فهو نوع من القرود وهو كائن مائي وأوصاف أخرى فصلها الدميري في كتابه بصورة دقيقة وذلك في الحديث عن حكم أكل النسناس فقال: «قال القاضي أبوالطيب والشيخ أبوحامد: لا يحل أكل النسناس لأنه على خلقة الناس. ولذلك قال الشيخ محب الدين الطبري، في شرح التنبيه: وأما هذا الحيوان، الذي تسميه العامة بالنسناس، فهو نوع من القردة، لا يعيش في الماء فينبغي تحريم أكله، لأنه يشبه القردة في الخلقة والخلق والذكاء والفطنة. وأما الحيوان البحري منه ففي حكمه وحل أكله وجهان: أحدهما يحل كغيره من السمك، واختاره الروباني وغيره. والثاني يحرم كما تقدم، وبه قال الشيخ أبوحامد والقاضي أبوالطيب، وهو عندهما مستثنى مما عدا السمك، مما لا يعيش إلا في الماء. وترتيب الخلاف فيه: إنا إذا قلنا بتحريم ما عدا الحوت، حرم النسناس. وإن قلنا بإباحته، ففي النسناس وجهان: أحدهما التحريم كالضفدع والسرطان والتمساح. والثاني الحل ككلب الماء وإنسانه. وهذا هو الأقرب إلى نص الشافعي. ويشهد له قول صاحب المحكم، وقول كراع في البحر المتقدم. والنسناس، فيما يقال، دابة في عداد الوحش، تصاد وتؤكل. وهو على شكل الإنسان بعين واحدة، ورجل واحدة، ويد واحدة، يتكلم كالإنسان انتهى. فأفاد قوله إنها تصاد وتؤكل إنها مستطابة، وقد تقدم عن الدينوري عن أبي إسحاق أن النسناس يصاد ويؤكل. وقاله الميداني أيضاً كما تقدم».
وقد حقق أمين معلوف في معاني النسناس السابقة واستنتج الآتي: «النسناس عند العامة هو هذا القرد اللطيف الصغير الطويل الذنب وهو كثير في دنقلة وكردفان ... وإن استعمال العامة للنسناس بهذا المعنى قديم وقد أشار إلى ذلك صاحب تاج العروس وذكر حمد الله القزويني إنه كان شائعاً في أيامه بمصر أي منذ سبعمئة سنة لنوع من القرود الكبار من ذوات الأذناب ... أما النسناس الذي يخرج من الماء فلعله نوع من الكوسج يسميه الإنجليز بما معناه قرد البحر. والنسناس الذي يصيدونه في اليمن ويأكلونه حيوان آخر لا أعرف ما هو وهو بلا ريب ليس من القرود» (معلوف 1985، ص 16).
وفيما يخص قرد البحر فهو مخلوق أسطوري ويبدو أن منشأه التأثر بأنواع من الفقمة، وكذلك يوجد مخلوق آخر وهو Satyrus marinus وقد نشأ ايضاً بسبب الوصف المبالغ فيه لأنواع من الفقم، لاحظ هنا الاسم الموازي للنسناس وهو Satyrus يوجد منه نوعان بري وبحري؛ ما يعزز نظرية التأثر بالثقافة اليونانية
العدد 3334 - الأحد 23 أكتوبر 2011م الموافق 25 ذي القعدة 1432هـ