العدد 3330 - الأربعاء 19 أكتوبر 2011م الموافق 21 ذي القعدة 1432هـ

الناجحون والراسبون في التلفزيون!

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

كنتُ جالسًا بمعيّة أحد الأصدقاء أمام شاشة التلفاز. وفي غمرة البحث عن القنوات الفضائية، وقع الاختيار العشوائي، على إحدى القنوات العراقية، حيث كان يُعرَض على أثيرها برنامج تفاعلي مع الجمهور، تضطلع بإدارته مُذيعتان حسناوان. كان موضوع البرنامج هو إذاعة أسماء الناجحين في الثانوية العامة، وربما مراتب علمية أخرى.

وجه الغرابة في ذلك البرنامج التلفزيوني، أنه كان لا يكتفي بإذاعة أسماء الناجحين فقط، وإنما بإذاعة أسماء غير الناجحين مع ذكر نسبهم المئوية التي لا تسر! كانت المذيعتان تتناوبان على ذكر أسماء الراسبين ومناطقهم (الرُّسُوبُ كما جاء في لسان العرب هو الذَّهابُ في الماءِ سُفْلاً). تذكرهم بالاسم زرافات ووحدانا كما كان يقول قريط بن أُنَيْف في قريضه، من دون مراعاة لمشاعرهم التي عادة ما تكون مثقلة بالهموم، بعد انقضاء عام دراسي شاق وطويل.

كنتُ وصديقي نسمع ذلك ونضحك على هذا الفن الجديد في العلاقات العامة والاتيكيت! فما عرفناه عادة، عند ظهور نتائج العام الدراسي، هو أن تذاع أسماء الناجحين فقط، ثم تحفَظ بأدب أسماء غير الناجحين عن العلنيّة، حتى يأتي أصحابها ليتسلموها بعيدًا عن أعين المتلصصين فضلاً عن الإعلام، رغبة منهم في أن يكتموا أمرهم، ويبتعدوا ما أمكن عن الحرج، والأسئلة الشخصية المملة والفجَّة، التي عادة ما يهرف بها الفضوليون دون خجل.

الصَّدمة كانت لي بعد أسبوع من مشاهدة البرنامج تقريبًا، عندما كنت أقرأ خبرًا ذكرته وكالة الأنباء الفرنسية (أ ف ب) نقلاً عن مصادر طبية عراقية في حي الزعفرانية جنوب بغداد، من أن فتاة عراقية في التاسعة عشرة من عمرها، أطلقت النار على نفسها من مسدس والدها، بسبب ضغوط مارستها الأسرة عليها بعد رسوبها في الامتحانات! بالتأكيد، لا أدري إن كانت تلك الفتاة المسكينة، قد سمِعَت اسمها يُذاع جِهارًا في التلفاز أم لا، وبسبب (آلية) إذاعته انتحرت، إلاَّ أن عملية الانتحار قد تمَّت، ولدواع تتعلق بالرُّسُوب.

هنا، وكما يتذكر المرء حقوق الأفراد في الخصوصية، وحفظ كرامتهم، يتذكر أيضًا حقوق الجماعات في قناعاتها، وحفظ كرامتها. اليوم يجنح الكثير من الإعلام العربي الرسمي سواء في اليمن أو سورية (وقبلهما القذافي) ودول أخرى إلى طريقة مبتذلة من التفكير، عبر إهانة الناس، وتخوينهم، ومحاكمتهم بالنوايا المغلوطة، ووصفهم بأنهم مأجورون وعملاء.

أثناء الثورة المصرية، كان التلفزيون الرسمي في عهد مبارك يتحدث بطريقة يستفز فيها مشاعر المصريين، عبر التحريض على مطالبهم المرتبطة بالأجندة الخارجية. وكان الشريط الإخباري يُردِّد: إحباط محاولة اقتحام عناصر مجهولة غرفة صيانة نفَقي الأزهر. مجلس الشعب يُدين مظاهر العنف والتخريب. الخارجية المصرية تقول إن مصر لا تقبل إملاءات خارجية. الداخلية تؤكد استمرار الجهود لإجهاض ترويع المواطنين.

كانت إدارة التلفزيون، تدفع بأناس مختارين للاتصال على الهواء مباشرة للتحدث بأشياء تسخر بالمتظاهرين. يسأل المذيع متصلاً يقول إن اسمه إيهاب، ويدعي أنه من قيادات المتظاهرين: أخبرنا عن كيفية حياتكم داخل ميدان التحرير، كيف يأكل ويشرب وينام المتظاهرون هناك؟ يُقال إن وجبات الطعام تدخل إلى الميدان، وأن بطانيات النوم توزع عليكم؟ (في غمزٍ من التلفزيون بأن هؤلاء المتظاهرين، هم مدعومون من الخارج)، يؤكد المتصل ذلك الأمر ثم يضيف بالقول نصًا: «الموجودون في ميدان التحرير، هم جبناء، أنصاف رجال، وأنصاف حريم، وشواذ جنسيًا»، في مزايدة رخيصة منه على ما يجري.

عندما بدأ المتظاهرون المصريون بالنزول إلى ميدان التحرير، وتصدت لهم قوات الأمن، خرج مذيع بالتلفزيون المصري وأذاع التالي: «صرح مصدر أمني مسئول بأنه وإزاء إصرار المتجمهرين في ميدان التحرير في الاستمرار في تحركهم، وفي ضوء ما تأكد من إعدادهم لتصعيد التحرك، على نحو يتجاوز مظهر الاحتجاج إلى التمادي في أعمال الشغب، ومحاولة إحداث شغب في الحركة المرورية في العاصمة، بما يُجرِّد التحرك من دعاوى كونه تحركاً سلميًا»... وأضاف «فقد تم في نحو الساعة الواحدة من صباح اليوم الأربعاء فضّ التجمهر، بعد أن عاود مثيرو الشغب التعدي على القوات، وإحراق إحدى سيارات الشرطة بميدان عبدالمنعم رياض، ومحاولة إشعال النيران في مبنى عام بكورنيش النيل، وإحداث تلفيات في عدة سيارات عامة وخاصة، وأوضح المصدر، أن الشرطة قد التزمت بضبط النفس إلى أقصى مدى، إلاَّ أن متزعمي هذا التحرك وفي مقدمتهم جماعة الإخوان، وما يُسمى بحركة 6 أبريل وكفاية، وكذا الجمعية الوطنية للتغيير، قد تمادوا في استثارة الشباب، ودفعهم للصدام مع قوات الأمن».

هذا الحال، تكرَّر في أكثر من تلفزيون عربي، أراد وَصفَ أحداث بلاده السياسية في الداخل ما يريد. في طرابلس، كان التلفزيون الليبي يقول الأمر ذاته عن المتظاهرين في بنغازي، بل زاد عليها وصف منتسبيها بالجرذان، وهو اللفظ الذي أطلقه القذافي عليهم، وفرضه على إعلامه الرسمي. في سورية، تكرَّر الخطاب ذاته: مجموعات إرهابية، العملاء، ثم زاد عليها بالإتيان بوثائق قديمة، من ارشيف الجيش السوري، وقام بعرضها مباشرة على كاميرا البرنامج، تظهر أن أحد رجال الدين المعارضين للحكم (سمَّاه باسمه الرباعي علنًا)، قد تورَّط في قضايا جنسية، ومُخلَّة بالآداب، وبسببها تم طرده من السلك العسكري!

هذا الأمر، يُدلِّل على أن نهج الكثير من الأنظمة العربية هي واحدة.وأن سياسات التشويه هي ذاتها. ولو أن المصريين اقتنعوا بما يقوله تلفزيونهم قبل سقوط مبارك، لَحَقَّ على القضاء أن يحاكم مليون مصري تظاهروا في ميدان التحرير، لأنهم (وبحسب وصف التلفزيون حينها) مُجرَّد مأجورين، وخوَنة، وأنصاف رجال، ومخربين.

ولو اقتنع الليبيون بما كان يقوله تلفزيونهم قبل سقوط القذافي، على المتظاهرين، وما كان يقوله الصحافيون المحسوبون عليه، أمثال المذيعة وديان، وهالة المصراتي وما كان يقوله مفتي ليبيا خالد تنتوش من أن المتظاهرين (والثوار لاحقًا) يتناولون حبوب هلوسة، لكانت السجون الليبية في سرت وبني وليد وأجدابيا ومصحات الإدمان، قد امتلأت بهم.

هنا لا يسعني إلاَّ أن أتذكر مقولة الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة الأميركية، أبراهام لنكولن عندما قال «ليس لأحد ذاكرة قوية بما فيه الكفاية لكي تجعل منه كاذباً ناجحًا»

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3330 - الأربعاء 19 أكتوبر 2011م الموافق 21 ذي القعدة 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 17 | 12:49 م

      الهلوسة

      ماذا سيقول تلفزيون الجماهيرية الآن بعد مقتل القذافي

      جرذان ومدمنو مخدرات وهلوسة!!!!!!!!!!!!

    • زائر 15 | 5:01 ص

      الغالب بالشر مغلوب

      فعلا صحيفة الوسط عرفت تختارك هنيئا لك ولصحيفتنا المميزة بك اخي محمد واصل الدرب على خطى الخير نستلهم المسيرة الحقة وقديما وحديثا قيل امشي عدل يحتار عدوك فيك . والغالب بالشر مغلوب .

    • زائر 14 | 4:32 ص

      الحال نفسه نفسه

      على فكرة لو تتابعون التلفزيون اليمني ما يفرق قيد انملة عن غيره من التلفزيونات العربية والمغرب والجزائر وحتى الخليج الحال نفسه نفسه

    • زائر 12 | 2:44 ص

      رب ارجعوني

      لا تنسى بعد.. ترى حتى مظاهرات الغرب وأوروبا وأميركا مدعومة من الخارج , والناس كأنهه بهايم تمشي ورى الخارج وما اتشوف الداخل !!!! فما أسهل الهروب الى الأمام , والأسهل منه وبدل الركيض للأمام هو اخفاء الرأس كالنعامة

    • زائر 11 | 2:14 ص

      مسمار

      إياكِ أعني واسمعي يا جارة

      وقالوا

      إن اللبيب من الإشارة يفهمُ

      بس النحيس يبي ليه ألف صفعة حتى يوتعي من غيبوبته الفكرية.

      تمسون على دبابيس التوعية

    • زائر 10 | 1:23 ص

      اعتقد وصلت الرساله (( الحقيقة المرة ))

      يا اخ محمد كلامك فى الصميم مثل ما يقولون والدور جاى لا تخاف كل شى فى وقته حلو يا الحلو

    • زائر 9 | 1:05 ص

      احييك بلمقال الرائع

      سلمت يداك يااخي على هذا الهمس

    • زائر 8 | 1:03 ص

      سلمت يداك

      عندنا وعندهم خير

    • زائر 7 | 12:58 ص

      أحسنت بارك الله فيك

      ذكرت مصر وسورية وليبيا واليمن ونسيت تونس ودولا أخرى أقرب غلينا من حبل الوريد
      لك العذر في ذلك لأنك لو فعلت لقصدك زوار الفجر بقبعاتهم وأحذيتهم وأقنعة وجوههم كما فعلوا مع النساء

    • زائر 6 | 12:43 ص

      سلمت على احلى مقال

      و يا ريت البعض يعتبر ! و لكن كثرت العبر و قل الاعتبار.....

    • زائر 5 | 12:40 ص

      على العموم مشكور أستاذ

      هذا الأمر، يُدلِّل على أن نهج الكثير من الأنظمة العربية هي واحدة..)وإيران وما جرى فيها من فضائع يشيب لها الولدان الا تستحق منك عبارة والدول الاسلامية

    • زائر 4 | 12:08 ص

      عندنا وعندهم خير

      يا اخي الاساءه الممنهجه التى حدثت في القنوات الرسميه اساءت للحكومات اكثر ما نفعتها التلفزيون في بلد يعكس مصداقيه القائمين عليه الجلي للعيان ان ما يقوله اي مذيع وما يتلفظ به لسوء حظ المذيع انه موثق والمشاهدين شهود اثبات في كل انحاء العالم يعني اذا صار وقت الحساب واحنا في عالم متحضر شبيقول المذيع هذي ماده اعلاميه قرائتها على الناس بحكم عملي لا عمي هذا ما يمشي ماذا لو شهر الناس بك اذ انهم يعرفون حتى قياس كبكاب جدتك الله يرحمها تقبل وبتسكت ما اظن!!!!

    • زائر 3 | 11:58 م

      سلمت يداك

      استاذ محمد،
      نغبط الوسط و نفخر بهذا القلم الرائع والذي يحمل عقلا وقلبا ونفسا يتوازن الثلاثة في هذا الابداع لكي يسطروا لنا اروع الحكم و أفضل الأفكار و أسمى المشاعر .. مازجا بين التاريخ والجغرافيا وعلم النفس والاجتماع والدين والسياسة في قالب (من الحلوى) .. يسر النفس و يبهج القلب و ينمي العقل .. طبت وطاب أصغراك ..
      دمت بألف خير

اقرأ ايضاً