الصمود العظيم والتاريخي للقلعة والذي من المفترض أن تقام له مناسبة سنوية لتخليده في الذاكرة الوطنية؛ هو ذلك الذي تم ما بين شهري يوليو/ تموز وأغسطس/ آب من العام 1521.
ما حدث في ذلك العام هو عملية غزو البحرين للقضاء على سلطة الجبور بها بعد مضي أربعة عشر عاماً على دخول البرتغاليين إلى الخليج واحتلال هُرمز. تم ذلك في عهد الملك البرتغالي إمانويل الأول، وفي فترة حكم (دياجو دي سكويرا/ Diogo de Sequeia) حاكم عام الهند، وبقيادة مباشرة من ابن أخيه (أنطونيو كوريا - Antnio Correia).
وللأسف ينقصنا مصدر محلي خليجي أو عربي أو حتى إسلامي يتحدث عن حجم وإمكانات قوة الجبور العربية التي دخلت المعركة الحاسمة ضد العدو البرتغالي العام 1521 من أرض البحرين لأول مرة منذ وصل البرتغاليون إلى المنطقة، كما لم يحدث في بقعة من بقاع الخليج الأخرى والساحل العُماني. ولهذا نلجأ عادة للمصادر والوثائق البرتغالية في هذا السياق.
إثر عودة السلطان مقرن بن زامل الجبري من الحج سريعاً العام 1521، قام بتحصين القلعة وبناء سور كبير من الطين أمام الواجهة البحرية للقلعة لحماية الجزر ولصد ذاك الغزو.
أضف إلى ذلك، أن مقرن وضع على رأس كل قوة فوق أسوار القلعة أحد القواد المدربين كقادة ميدان. كما أمر بوضع متاريس على طول الساحل البحريني المواجهة لأسوار القلعة، للتصدي للهجوم البرتغالي من ناحية البحر وبالذات من خلال خور القلعة ذي المياه الضحلة حيث يسهل نزول الجنود بمراكبهم الصغيرة وخوض المياه وصولاً إلى البر وقت الجَزر.
وتقول المصادر البرتغالية، إن السلطان مقرن بنى خط دفاع آخر بعد الخط الأول المواجه للبحر، وذلك لحماية القلعة مباشرة. ولذا كان هذا الخط الدفاعي ملاصقا لجدار القلعة ومكونا من جذوع النخل البحريني من بساتين القلعة المحيطة بها والذي اعتمد في بنائه على سواعد وأيدي الفلاحين البحرينيين من سكان قرى القلعة. وجعل في ذلك الحائط فتحتين أو ثلاث للتمكن مباشرة من رؤية البرتغاليين القادمين من البحر دون أن يرى البرتغاليون من بداخلها ثم تغلق استعدادا للقتال. وربما استخدمت تلك الفتحات لرمي البرتغاليين بالسهام أو البنادق التركية القليلة التي كانت بحوزة مدربي الجبور من الجنود الأتراك.
وقد كانت المرة الوحيدة طوال السيطرة الهُرمزية على جزر البحرين التي يشارك فيها البحرينيون بالقرى المحيطة بالقلعة تحديداً في الدفاع عن القلعة والجزر ربما بتشجيع ومساعدة السلطان مقرن بن زامل الجبري. ويبدو أنه قرر الاعتماد على القوى البحرينية العربية للدفاع عن الجزر، ولذا تجمع عدد كبير منهم في القلعة وحولها لصد تلك الغزوة البرتغالية. وهو ما يؤكد أيضاً أن القرى المحيطة بالقلعة كانت عامرة بالسكان من المواطنين وفيه نجد تفسيرا كذلك لما ذكرته الوثائق البرتغالية، التي تحدثت عن المعركة، من أن عدد المتواجدين في القلعة عند الغزو يربو على 11,000 إنسان.
وبالطبع هؤلاء ليسوا هم مقاتلو الجبور فهذا العدد كبير جداً ولا توجد وسيلة بحرية متطورة لنقلهم بتلك السرعة في ذلك الزمن بين الأحساء والبحرين وفي وقت قصير بين عودة مقرن من الحج وبدء الغزو والمعركة الفعلية في شهر يوليو.
وقد كان موسم الحج للعام 926 هـ يوافق شهري نوفمبر/ تشرين الثاني وديسمبر/ كانون الأول من العام 1520م. وبداية العام 1521 كانت في شهر صفر للعام 927 هـ. وبما أن عودة مقرن من الحج في الحجاز إلى جزر البحرين، ومعه كل الحجيج، تستغرق بالتأكيد أكثر من شهر وعملية تجميع الجيش الكبير الذي ادعاه البرتغاليون تستغرق أسابيع، وهو ما لم يكن متوافراً في ذلك الزمن القصير. وهذا يدحض المزاعم البرتغالية بشأن أن المتواجدين في القلعة هم مقاتلون بينما هم المواطنون القاطنون في قرى القلعة وحولها جاؤوا متطوعين للدفاع عن قراهم وأرضهم.
عندما وصل الجيش البرتغاليون قرب قرية «كرانة» حيث القلعة، نزل «كوريا» على اليابسة وبدأ في دك جدرانها القوية ومحاولة عبور الخندق المحيط بها، ولكنه فشل لأن مقرن قد أمر بملء الخندق بماء البحر قبل الغزو. وقد خاض مقرن المعركة في البداية في الفضاء المفتوح أمام القلعة وهذا ما يدل على اعتماده على المواطنين البحرينيين في الدفاع عن المنطقة وإلا لما ترك نفسه عرضة للبرتغاليين خارج القلعة وهو ومقاتلوه من خارج البحرين لا يعرفون تماماً كل طبوغرافية المكان وكمائنه.
وبرزت مواقف كثيرة لفدائية وتضحيات البحرينيين والجبور بقيادة مقرن في الدفاع عن البحرين من موقع القلعة وخصوصاً بعد بدء الهجوم المباشر عليها في 27 يوليو، حيث اجتاح «كوريا» الحائط الدفاعي الأول وبدأ بمحاولة اجتياز الحائط الدفاعي الثاني أمام القلعة وقد غاصت ركبه وجنوده في خندق الماء الموحل حول القلعة. ولم تكن معركة القلعة سهلة المنال بالنسبة للبرتغاليين، فقد تكبدوا فيها عددا من القتلى والجرحى بلغوا السبعين. وكان من ضمن الجرحى القائد نفسه (كوريا) الذي أصيب في ذراعه أمام صمود القلعة وسكانها، وكذلك شقيقه وعدد من قادة البرتغاليين. وفي الوقت نفسه أصيب مقرن أيضاً بطلق ناري من أحد المدافع أو البنادق البرتغالية وبقي بعد نحو ثلاثة أيام من إصابته يعاني من جراحه الخطيرة وهو يقود معركة القلعة حتى النفس الأخير ثم وفاته.
وليس لدينا للأسف معلومات وافرة عن مدى مساهمة أهل البحرين الأوائل في هذا الصراع ومن هم قادتهم من القرى المحيطة بالقلعة لأن المصدر الوحيد هنا برتغالي وهو لا يحفل كثيراً بتتبع أخبار العرب والمسلمين الذين يحاربونهم. ويبدو أن البحرينيين حتى في الإعلام التاريخي، الأجنبي والعربي منه، مظلومون منذ ذاك الزمان.
بعد أربعة أشهر فقط من إعادة احتلالها على يد البرتغاليين نَفضت البحرين النير البرتغالي عنها لأنها لا تقبل الاستسلام والظلم وإن قصر أو طال أمده على أرضها. وكان ذلك في نوفمبر/ تشرين الثاني العام 1521، حيث عمت الثورة الخليج كله، كما ذكرنا سابقاً. وتم فيها شُنق جميع المسئولين البرتغاليين في البحرين بما فيهم الوكيل التجاري المدعو (جواو بوتا - Joo Bota) ومساعده وستة من الموظفين وحراس الوكالة البرتغاليين حيث لم يكن هناك أي جيش برتغالي مقيم في البحرين طوال تاريخ السيطرة البرتغالية عليها.
ومرة ثانية تثور البحرين من منطقة القلعة ضد ظلم البرتغاليين ونهبهم لخيرات البلاد برفع الضريبة السنوية على البحرين، ضمن ضرائب هُرمز، من 15 ألف أشرفي إلى 100 ألف اشرفي العام 1529. ولكن للأسف هذه الثورة استغلها حاكم الجزر الهُرمزي آنذاك بدرالدين الفالي لصالحه عندما احتمى بالقلعة ولم يدافع عن الناس خارجها كما فعل مقرن من قبله. بل كان مع بدرالدين الهُرمزي قائد من المرتزقة (البلوش) قد اعتمد عليه في الدفاع عن القلعة ومعه نحو مئة من الحامية الهُرمزية. لكنه بمجرد وصول القائد البرتغالي، (سيماو دا كونها - Simo da Cunha)، المكلف بإخماد الثورة إلى ساحل البحرين؛ فر البلوشي هارباً من القلعة بحجة أنه لن يخون ملك هُرمز ويقف مع ثورة البحرين ضد البرتغاليين، وترك بدرالدين وحده يواجه الحدث. وصمدت القلعة لأيام ضد حملة «سيماو» على رغم أنه حاصرها من كل جانب. وللعناية الإلهية في الحفاظ على أهل البحرين وقلعتهم دون الحاجة لموقف بدرالدين، فقد حدثت معجزة أمامها في تلك الحملة البرتغالية. فعندما نفذ البارود لدى البرتغاليين اضطروا لإرسال عدة سفن لهُرمز لإحضار المزيد فقام المُناخ، كعادته في إظهار حبه للبحرين وشعبها، بإصابة نحو 200 جندي برتغالي بالمرض، كما مات نحو 100 جندي من الحمى بشكل سريع.
وكان الموت بتلك الحمى كما تذكر المصادر البرتغالية يحدث بمجرد أن يلبس الجندي درعه ليقاتل أهل البحرين ثم يخلعه بعد ساعات، يصاب بالحمى ويموت حالاً. كما في المعجزة التي حدثت للحملة التركية العام 1559 على البحرين وقد تحدثنا عنها في أعداد سابقة في زاوية «حكايات من زمن البرتغاليين».
وقد بقيت قلعة البحرين بين 1529 حتى 1559 هي الهدف الأول والأخير لكل اهتمامات البرتغاليين بالبحرين لأهميتها في السيطرة التامة على الجزر. وتمر السنوات والقرون والقلعة مازالت شاهدة على أصالة الأرض وشعبها ومعجزات الصمود البطولي أمام كل الغزوات والتحديات مهما عظم خطرها وخُبث هدفها
إقرأ أيضا لـ "محمد حميد السلمان"العدد 3330 - الأربعاء 19 أكتوبر 2011م الموافق 21 ذي القعدة 1432هـ
شكرا
جميييل
جمري حتى النخاع
يعطيل الف عافيه دكتور على هذا الجهد الجبار