العدد 3327 - الأحد 16 أكتوبر 2011م الموافق 18 ذي القعدة 1432هـ

هذا العصر ذاهب في جنونه بإصرار

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

العقائد حاضرة؛ لكن قيمتها وتفعيلها في دنيا الناس في غياب. لا مشكلة في أن تسود العقائد؛ مادامت تحترم وتقدّر وتقيم وزناً للإنسان، وتقيم وزناً للصورة والمعنى الذي يجب أن تكون عليه هيئة تلك الحياة. كل ذلك إما برسم الانحراف بتلك العقائد، وإما برسم المصادرة والتأميم.

هذا العصر ذاهب إلى لا معناه. إلى لا جدواه. إلى اللاقيمة فيه. ذاهب إلى جنونه بإصرار وشهوة، بعدها لا يمكن لحياة بمسمّاها أن تصبح حياة بالفعل. إنها مسرح مفتوح على الهزل والأقنعة، ومزيد من تعميم الغيب الذي لا علاقة له بالنص الذي هو جزء من استقامة حضورنا بإيماننا به.

هذا العصر ذاهب في جنونه وكأنه يحتمي من الضواري والغربان والوحوش. ضوارٍ وغربان ووحوش مسلّطة على الذين استغاثوا فلم يُؤذن لهم برفع الصوت، وصبروا، ففهم أنهم في الطريق إلى الحضيض، وتغاضوا فكان إيذاناً بممارسة مزيد من العُقد والأمراض عليهم.

في هذا العصر، تحتاج إلى أن تكون ماهراً في المناورة معه، ومع الذين ينتسبون إلى صخوره وندرة القلب فيه. هذا العصر لا يراد له أن يكون مجنوناً ومنفصلاً عن عقله، أو ما تبقّى منه فحسب؛ بل يراد له أن يكون أداة للحيلولة دون متاخمته إلى ما يدل على العقل أو الحس أو الروح أو الكرامة أو القيمة أو المغزى أو الهدف أو حتى الجهة.

عصر يمد لك يداً تسلمك إلى الوهم أو الغياب؛ فيما يصادر الحقيقة والحضور. عصر يضعك في مسرح مغلق فيه من الإلهاء ما ينسيك اسمك، ويذكّرك بحليب أمّك؛ فيما يعبث بك وبكل ما يمتُّ إليك بصلة. عصر لا ينضب قهره وتجاوزه وإهاناته؛ فيما هو عاجز عن توفير مظلة استقرار للمؤقت والضروري من حاجتك. من تلك الحياة.

عصر ينتظرك كي تزرع، ليقوم بمهمة الحصاد، وينتظرك كي تحزن وتراكم كوارثك، كي يتغنّى، وينتظرك كي تظمأ، ليمارس الإسراف في كل ماء الحياة، بدءاً بإهدار الماء وليس انتهاء بإهدار الدم.

عصر تمتد حدوده من الرمل إلى الرمل، ولا وسيط في الأمر. لا وسيط من ماء أو حتى حجر. حتى الحجر بات مستحيلاً في التعامل مع روح هذا العالم. الحجر فيه من القلب «ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء...». (البقرة: 74)، لكنك لن تجد فيمن يتحكّمون في سيرة ومسيرة ومخلوقات هذا العصر، حتى الأدنى من الحجر، لن تجد اليسير من ذلك الحجر الذي يرحم، ويضع أدنى وزن لروحك.

عصرُ كبائر، فظائعه صغائر. عاطفته من زبَد أو حديد. يسهر جنوده على مزيد من الدخان والغاز والانتهاك والقمع والإبادات وتوزيع المخلوقات على جغرافيات العدم والمجهول.

عصر غارق ومشغول بالتفاهات والنوم واحترام الأرصفة وتقديم قيمتها على البشر. عصر لا أعياد ولا مفاجآت ولا عواطف فيه؛ سوى عاطفة أن يعيد صوغ هذا العالم بالشكل الذي يعيد النظر في جدوى وجود سكّانه، وما يرتبط بهم.

عصر تزدهر فيه المشانق أكثر من ازدهار نصوص وعلامات الحياة، وتزدهر فيه المؤامرات أكثر من ازدهار التوافق على كلمة سواء، وتزدهر فيه النهايات أكثر من اتضاح البدايات، ويزدهر فيه التخوين والشتائم أكثر من الصلاة على النبي!

عصر لا كبرياء فيه، ومتاهاته أكثر من وصوله والخرائط. عصر يعاني من تخمة أساطيره والأصنام، ويفتقد المثَل. المثل من لحم ودم وقيمة وأخلاق وتجربة على الأرض.

عصر لا ذاكرة له. ذاكرته أن يستمر في النسيان. في الانتقال من حال العصف والخسف والقصف إلى حال النسف. تلك موهبته، وتلك قدرته على إعادة الاعتبار إلى الحياة بشكل عكسي، وبحسب ما يرى، وبحسب الآلة التي تفوّضه بذلك.

عصر لم يقرأ الدرس جيداً؛ لذا يستمر في الانحياز إلى الإصابة بوهمه وقدرته على الانتصار واللهو؛ فيما العالم يكاد يذكّر بما قبل تشكّله واستوائه وخلقه.

عصر بات مُهيّئاً للإساءة إلى نفسه، قبل الإساءة إلى المنتسبين إليه، وقبل الإساءة إلى القيم التي تحكمه وتوجهه شطر أكثر من تيه. لا قيم في عصر يصرُّ على أنه أول الدرس وخاتمته؛ فيما هو في العمق من جهالته بالروح، وأميّته في فهم قيمتها، عصفاً بها، وانتزاعاً لها، من دون أدنى حق. الحق الذي لا يعرفه، وليس على استعداد لأن يعرفه.

عصر يصرّ على جعلك دون القدَم؛ فيما أنت موضوع ودرس السماء على الأرض. يصرّ على تفشّي ضرّائك مادام منعّماً في سرّائه، بتراكم مزيد من العذابات

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3327 - الأحد 16 أكتوبر 2011م الموافق 18 ذي القعدة 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 11:43 ص

      الغاز

      كتاباتك ياستاذ كلها ألغاز وتلميحات من بعيد ماتنفهم

    • زائر 3 | 5:48 ص

      رائع

      كلمات ومعان تصب في كبد الواقع والحقيقة

    • زائر 2 | 1:43 ص

      من يسمع ؟

      رائع استاذ جعفر هو أجمل ما قرات لك في هذه الفترة
      عاشقة المطر

اقرأ ايضاً