من خلال رصد مسيرة الانتفاضات والثورات التي عصفت بالمنطقة العربية، نلحظ أن مسار الثورة أو الانتفاضة لا يسير بسلاسة، أو حتى غير مضمون النتائج، وقد يحمل في طياته خطر الارتداد بالأوضاع إلى أسوأ مما كانت قبل حركة التغيير. ففي البلدين اللذين عبرا عتبة التغيير، وهما مصر وتونس، لايزال هناك خطر انزلاق الوضع إلى مواجهة فيما بين مكونات المجتمع التي وحّدتها الثورة في مراحلها الأولى. ففي مصر برز السلفيون كقوة خطرة صاعدة، وهم الذين لم يسهموا في الثورة، وهم حالياً يستهدفون الأقباط والليبراليين والديمقراطيين، وشعارهم مصر دولة إسلامية. الإخوان المسلمون ميّزوا أنفسهم عن قوى الثورة الأخرى، وخصوصاً شباب ثورة 25 يناير (كانون الثاني) والأحزاب الديمقراطية، ويبدو أنهم على توافق مع المجلس العسكري ومع الولايات المتحدة لإقامة نظام «إسلامي معتدل»، لا يحدث تغييراً عميقاً في الدولة والمجتمع.
في تونس هناك أيضا صراع بين قوى اليسار الراديكالي وعددٍ من قوى الثورة، كما أن هناك خلافات بين التيار الإسلامي ممثلا بحزب النهضة وباقي القوى، وان كان حزب النهضة يتصرف بمسئولية وطنية وواقعية في تعاطيه مع النظام المراد إقامته في تونس. أما في اليمن فإن قوى التغيير موزعة على ثلاث كتل بينها، وهي قوى ميادين التغيير (ثورة 17 فبراير/ شباط) الجماهيرية ممثلة بالمجلس الانتقالي واللقاء المشترك لأحزاب المعارضة ممثلاً بمجلس الإنقاذ الوطني، وتحالف القوى القبلية الذي يقوده حميد الأحمر شيح مشايخ حاشد، وهي غير متوافقة على برنامج أو حتى خطة للإطاحة بالنظام القديم والنظام البديل، وكل له أجندته، ويمكن أن يتطور الوضع إلى مواجهات وخصوصاً إذا اقتربت ساعة الحسم.
وعلى خلفية التركيبة القبلية والمناطقية والمذهبية في اليمن، فإن ما بدأ كثورة سلمية جامعة لغالبية اليمنيين متجاوزاً السلاح والقبلية والمذهبية والمناطقية، قد بدأ يتحول إلى عنف متصاعد، فانقسم الجيش اليمني على نفسه، وتجري معارك مع قبائل حاشد، كما تحدث مصادمات بين القوات الموالية للنظام وخصوصاً الحرس الجمهوري وتشكيلات الجيش المتمردة. كما أن وجود حركة الحوثيين المسلحة في الشمال والحراك الجنوبي وتنظيم القاعدة يعقد الموقف.
بالنسبة إلى سورية، فإنها تحتوي على تركيبة دينية ثنائية (مسلمين ومسيحيين)، وتركيبة مذهبية (سنة، علويين، دروز، شيعة) وقومية (عرب وأكراد)، ومن أهم إخفاقات حكم النظام المديد الفشل في دمج مكونات المجتمع السوري، كما أن حكم الحزب الواحد أدى إلى إضعاف المجتمع السياسي والمدني، وعدم وجود معارضة منظمة. من هنا نلحظ تشرذم المعارضة وتعدد مراكزها، رغم الإعلان عن لجان تنسيقية للثورة في الداخل كمظلة فضفاضة.
لقد تطور الوضع في سورية إلى مستوى خطير، حيث يستخدم النظام القوات المسلحة لقمع الشعب، وهي المناط بها حماية الوطن وتحرير أراضيه المحتلة من قبل العدو الصهيوني. كما عمد النظام إلى استخدام قوات الأمن وميلشيا مسلحة (الشبيحة) وترتب على ذلك حمام دم من الصعب تجاوزه. وهناك خطر استثارة الطوائف ضد بعضها البعض، وهناك خطر المواجهة بين الجيش والشعب، وإمكانية تفكك الجيش بسبب هذه المواجهة.
وسورية كونها على خط المواجهة مع «إسرائيل» وأراضيها محتلة وتشكل جهة الإسناد للمقاومة في فلسطين ولبنان، فإن تفكك الوضع الداخلي فيها ينذر بمخاطر وطنية وقومية هائلة.
وفي ليبيا تحوّلت الانتفاضة السلمية التي انطلقت من بني غازي إلى حرب دموية لها طابع أهلي أيضاً، وبقدر ما كانت البداية واعدة بحركة شعبية سلمية تطيح بالنظام فقد تحولت إلى حرب استنزاف مريرة. ومن الواضح أن هناك ولاءات قبلية، يعمل القذافي على استثمارها لصالحه، ما قد يجر إلى صدامات قبلية.
أما الخطر الداهم على الثورة فيأتي من دور حلف الأطلسي الذي يعيد إلينا كابوس العراق، ما يعني خلاص ليبيا من حكم العقيد المستبد لأكثر من أربعة عقود، إلى الخضوع لحلف الناتو وتبعاته الخطيرة.
في الأردن هناك خطر التمايز الفلسطيني الشرق أردني في حركة التغيير. الفلسطينيون متهمون بنزوعهم لعدم الولاء للحكم واختاروا أن يكونوا في خلفية الصورة، والأردنيون متهمون بالموالاة المطلقة للحكم فكانوا في مقدّمة الصورة لنفي هذه التهمة، وأعتقد بأنه تم تجاوز المشكلة، لكن الخلاف مستمر بشكل آخر، وهو مدى جدية التعديلات الدستورية في إحداث إصلاح حقيقي للنظام الملكي.
في المغرب الذي يعتبر شعبه الأكثر اندماجاً، وتعتبر قوى المجتمع المدني الأكثر تطوراً، حيث أحزاب المعارضة شكلت أكثر من حكومة، فإن التناقض سياسي بالدرجة الأولى، ولم يتخذ انقساماً عمودياً. التعارض هو بين قوى الانتفاضة الشبابية حيث تمتلك حركة العدل والإحسان الإسلامية نفوذاً كبيراً إلى جانب قوى يسارية راديكالية من ناحية، وبين قوى المعارضة والحكم من ناحية أخرى. وأثبت الملك محمد السادس أنه الأكثر ذكاءً من بين الحكام العرب، فقدّم تنازلات جوهرية تمثلت في اقتراح دستور جديد والتصويت عليه شعبياً في استفتاء في 1 يوليو/ تموز. وبموجبه يصبح الحكم ملكياً دستورياً برلمانياً، لكن قوى الانتفاضة اعتبرت ذلك غير كاف، وهي مصرة على الاستمرار بالانتفاضة في حين ترى قوى المعارضة الأخرى في الإصلاحات الدستورية الطريق السليم، ما جعل المواجهة السياسية مفتوحة بين الطرفين. وهو خلاف ما حدث في دول عربية أخرى، حيث لعب العامل الطائفي دوراً خطيراً في إجهاض حركة التغيير، وتعميق الانقسام بين مكونات المجتمع.
ورغم ان التمايز المذهبي حقيقة واقعة في بعض البلدان، ولم يتحقق الاندماج الكامل بين مكوناتها، فلكل منها تمركزها السكاني ومؤسساتها الدينية وارثها التاريخي، فإن هذا لا ينفي القواسم الجامعة والانتماء إلى وطن واحد ودين واحد ونضال مشترك. كما لا ينفي توحد الشعب في منعطفات تاريخية أيام الاستعمار الذي عمد بسياساته إلى تعميق الانقسام وليس الاندماج. وعلى خلفية المظالم التاريخية والتمييز والفساد المالي والإداري انطلقت الحركات الشعبية مؤكدةً على السلمية والوطنية الجامعة. وشاهدنا كيف جرى تعبئة بعض هذه المكونات ضد بعضها، واتهامها بالولاء للخارج، وزيادة الاستقطاب الطائفي.
الوطن العربي من دون سياج في غياب نظام عربي فاعل، ولذا فإن الأبواب مشرعة للتدخلات الخارجية الأجنبية. وظهر ذلك بشكل واضح في الحرب التي يشنها الأطلسي في ليبيا لصالح المجلس الانتقالي ضد نظام القذافي. ولا يمكننا الدفاع عن القذافي وجرائمه، لكن حلف الأطلسي له أطماعه التي تلتقي مع أطماع العدو الصهيوني.
خطر التدخل الخارجي ماثل أيضاً في سورية، فأمام عنجهية النظام ودمويته تتعالى المطالب بتدخل خارجي لحماية الشعب، وأضحى النظام معزولاً عربياً وإقليمياً ودولياً، ما يسهل على أعدائه تسويغ تشديد الحصار عليه، وحتى التدخل الخارجي الذي قد ينطلق من تركيا حتى ولو لم تشارك فيه بقواتها كما حصل في العراق. وبالطبع ستنتهز «إسرائيل» الفرصة لتصفي حسابها مع سورية وحزب الله في لبنان والمقاومة الفلسطينية، وقد تجر التطورات إلى حرب ضد إيران وتحالف ما يعرف بالممانعة.
وخطر التدخل الخارجي ليس مقتصراً على العرب، ففي اليمن يتزاوج التدخل الغربي مع التدخل الخليجي، وإذا كانت الدوافع هي الحرص على اليمن من الانزلاق إلى حرب أهلية وعبوره بسلام للتغيير السلمي، فإنها تخفي حرص هذه الأطراف على الإبقاء على مصالح جزء من النظام والتحالف القبلي لكي لا تتجذر الثورة.
الثورة عملية تغيير شاملة وعميقة في المجتمع والدولة، لكن الأنظمة المطاح بها أو التي تقاوم الإطاحة بها أو حتى إصلاحها، سيطرت لعقودٍ على الدولة ولها نفوذها على المجتمع. من هنا فإن اقتصار التغيير على التشكيلات الفوقية لن يحدث ثورة أو تغييراً. قوى النظام السابق ستعمل على التكيُّف وتبني شعارات الثورة، وفي الوقت ذاته اختراقها واحتواؤها. ولا ننسى أن الأنظمة الاستبدادية المنهارة وصلت إلى الحكم بشرعية ثورية ثم أفرغتها من محتواها.
وتواجه كل من تونس ومصر اللتين عبرتا عتبة التغيير... خطر الانهيار الاقتصادي، ففي ظل حالة الاضطراب وعدم الاستقرار، يشهد البلدان تراجعاً اقتصادياً خطيراً وخصوصاً في قطاعات السياحة والتصدير، مع عجز متزايد في الميزان التجاري وتآكل في الاحتياطات من العملة الصعبة وتوقف الاستثمارات. وإذا ما اقترن ذلك باضطرابات عمالية فسيفاقم ذلك الأمور، بدءًا من زيادة التضخم والبطالة وتقلص فرص العمل، ما سينعكس وبالاً على الأحوال المعيشية لقوى الثورة والشعب ككل، وقد يقود إلى الفوضى والانهيار إذا لم يتم تداركه.
ورغم ان دول الثماني الكبرى قد وعدت في قمة دوفيل في يوليو الماضي بتقديم دعم سخي لكل من مصر وتونس دعما للتحول الديمقراطي، فإن هذا الدعم لم يتحقق. كما أن دولاً خليجية وعدت بتقديم مساعدات وتسهيلات مالية لكل من مصر وتونس إلا أن نتائج ذلك غير واضحة.
هذه المخاطر أكبر في بلدان هشة مثل اليمن وسورية. فاليمن كان يعيش أصلاً أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة، ومع تصاعد الثورة مع ما يصاحبها من شلل اقتصادي، فإن انهياراً اقتصادياً شاملاً قد بدأ فعلا. أما سورية فقد دمر موسمها السياحي وتراجع إنتاجها، وستتراجع تحويلات المغتربين السوريين وتتوقف المساعدات من دول الخليج وغيرها، ما يدفع بالوضع الاقتصادي إلى الهاوية، وربما يصمد الاقتصاد السوري بضعة أشهر ولكن ليس طويلاً.
في ليبيا توقف تقريباً تصدير النفط، المصدر الوحيد للدخل والعملة الصعبة ومحرك الاقتصاد، كما أن الملايين من العمالة الأجنبية التي تنهض بأعباء الإنتاج والخدمات غادروا ليبيا، ما أدى إلى شلل الاقتصاد. المجلس الانتقالي ونظام القذافي سيستنزفان ما لديهما من احتياطي سريعاً، وبالتالي سيتوقف الإنفاق.
هذه جردة سريعة بالآمال والمخاطر، ليس لإحباط الهمم أو اليأس من نجاح الربيع العربي... بل لتدارك هذه المخاطر وتعظيم فرص النجاح
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 3324 - الخميس 13 أكتوبر 2011م الموافق 15 ذي القعدة 1432هـ
مختصر مفيد
شكر خاص للكاتب المحترم للمختصر المفيد عن الربيع العربي..