العدد 3323 - الأربعاء 12 أكتوبر 2011م الموافق 14 ذي القعدة 1432هـ

المرض بالغنائم وحليب الناقة

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

«مُدَّتْ مائدة المنتصرين:

كلٌّ يعكف على غنيمته،

كلٌّ يشرب حليب ناقة ليست له».

أدونيس

للانتصار وجوه وأشكال. فهناك من يحقق انتصاره بالكذب والزيف والتضليل، وهناك من يحققه بالرشا، وهناك من يحققه بالشطب، وهناك من يحققه بالغدر، وهناك من يحققه بالوعود الكاذبة، وهناك من يحققه بالبطش في أفظع صوره، ولا يعد ذلك انتصاراً على الإطلاق، حين يُحقق بعيداً عن الضمير والأخلاق والقيم.

وثمة تعدّد لصور وأشكال الانتصار. ثمة انتصار لا يكلّف دماً والمآسي. لا يكلّف ثكالى وجرحى وقتلى ومشرّدين ومفقودين. انتصار سلاحه الرحمة وحضور القلب والضمير والأخلاق والقيم. لن تحتاج عندها لتحقيق مثل ذلك النصر إلى إراقة قطرة دم واحدة. ذلك هو الغائب المغيَّب من النصر في عالمنا اليوم. ذلك هو الذي لا يراد له أن يكون حاضراً في حركة الصراعات والتجاذبات؛ لأن المتضررين من مثل ذلك الانتصار يصعب حصرهم، وتعداد صور خيباتهم. ذلك هو ما يُفقد العالم توازنه وعقلانيته حين يغيب مثل ذلك التبنّي والتوجّه إلى انتصار بتلك المواصفات الأخلاقية، وإدراك قيمتها وتأثيرها في استقرار الحياة والعالم.

لا انتصار بعيداً عن كل ذلك. متى ما انتفى حضور أي منها، يصبح ذهاباً إلى التردّي والسقوط والانهزام أمام تلك القيم.

في فقه العالم المتوحش فقط تزداد الحاجة والإيمان بمقولة «الحرب خدعة»، في ثقافة دين أذهل العالم وانتبه وراعى حتى البيئة في خوض الحروب، لا يمكن للحرب أن تصبح خدعة.

علينا ألاَّ نكابر في الحديث عن توزيع الغنائم على موائد النشوة بـ «النصر». بعض تاريخنا العربي في جاهليته البعيدة، وبعضه في صدر الإسلام لم يكن مُشرِّفاً، حين يُدخل الإنسان نفسه ضمن مادة الغنائم. الصورة أكثر إيلاماً وسوداوية، ولا تشرّف مخلوقاً في عودة بعض مجتمعاتنا اليوم إلى جاهلية حديثة، في تجل واستدعاء للجاهلية البعيدة. لم نبتعد عن تلك الجاهلية كثيراً في عصر ما بعد الأنوار، وما بعد الحداثة، وتسارع المعارف والاكتشافات.

في ثقافة الغنائم عربياً، لا مجال لحرمة، ولا مجال لأخلاق، ولا مساحة لتأمل ومراجعة، ولا أفق لضمير. كل ذلك ضمن تاريخ في جزء منه لم يكن مشرّفاً.

ليس بالضرورة أن تكون الغنائم سلباً مباشراً عبر حروب وغزوات؛ إذ يمكن رؤيتها ومعاينتها اليوم حتى في المجتمعات المستقرة غير المنشغلة بهاجس البحث عن المراعي وما يرتبط ويلحق بها، وخصوصاً في المجتمعات التي لا يحضر القانون في كل تفاصيل تحركها وتعاملاتها وعلاقاتها وضبطها للحقوق والواجبات. هي مستقرة في الشكل والصورة. في حداثة الظاهر، واكتنازها بجاهلية وتخلف وارتداد الداخل، وبما تعكسه تلك الجاهلية من تخلف وارتداد في التعاطي مع الإنسان. يمكن رؤية وتمثل تلك الغنائم في الأزمات حين تستعر، وحين تبحث «الدولة الحديثة» في شكل من أشكالها، عن منجاة ومخرج لأزماتها بمحاولة ضرب المكونات فيها، واستبدال للكفاءات، وإزاحة الذين يشكّلون لها صداعاً وقلقاً، في توهّم يُلقي في روْعها أنها بذلك في الصميم والأكيد من تلك النجاة. على العكس؛ ستكون في مواجهة أضعاف مضاعفة من الكُلف المترتبة على ذلك الخيار الشبيه بالانتحار.

تعدّدت النوق التي يشرب منها من لا حق له فيها ولا يملكها. هذا الاستبدال في صوره المتعددة على مستوى الحقوق اليوم، وترحيلها للذين أدمنوا التوهم بانتصارهم، واحد من شواهد الانكسار والعطب في هذا العصر والمرحلة. انكسار وعطب أخلاقي يمسّ الروح والوجود الجمعي إذا استشرى وأصبح عقيدة وعرفاً، وفي ذلك مهلكة الأمم وزوالها وتفتتها. لا شيء ولا ممارسة يمكن لها أن تزيل أمّة وتخسف وجودها مثل ممارسة التعدّي على الحقوق، ومثل التحريض على تلك الممارسة. ولنا من شواهد الأمم من حولنا ما لا حصر ولا قِبَل لنا في رصده، والمرض بالغنائم لا شفاء منه. إنه يسري مسرى الدم في العروق، ولا تستقيم حياة المصاب به بعيداً عنه. إنه يحيا ويتنفس وينجب ويمشي في الأسواق ويمارس التريّض ووو...؛ ولكنه يظل مسكوناً ومشدوداً لذلك المرض الذي يجد عافيته فيه، واستقامته عبر الخلل والعِوج الناتج عنه. فقط نحتاج إلى انتصار بالضمير والقيم والأخلاق.

نتمنى أن ننأى بأنفسنا عن الحنين إلى جاهلية جهلاء، تذهب بالحرث والنسل، وتقتلع الضمير، وتغيّب الأخلاق، وتعاني تصحّر القيم وانعدامها

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3323 - الأربعاء 12 أكتوبر 2011م الموافق 14 ذي القعدة 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً