كنت ومازلت أؤمن بأن العلم والمعرفة لا يؤتيان من طريق واحد فقط، وكنت ومازلت أؤمن بأننا نتعلم من الكبير كما من الصغير، عمراً وليس مكانةً، حتى في أشد حالات استعصاء المشاكل والأزمات الفردية أو المجتمعية. وكثيراً ما انبلجت أمامي فكرة مبدعة من حديثٍ لطفل، وكم قفز في مخيلتي موضوع بحثٍ أو محاضرةٍ بعد حوار عابر مع شيخ كبير وحكيم أو شاب مزهوٌ بمراهقته. لا عيب ولا ضير في ذلك طالما أن الهدف في النهاية من كل علم ومعرفة هو صالح الفرد أو المجتمع الذي نعيش فيه. فالأفكار في حد ذاتها ليست أنانية بل البشر هم الأنانيون في خزنها وعدم استظهارها وإحاطتها بكثير من السرية باعتبار أنها ربما تُسرق من بشر يعيشون على سرقة أفكار الآخرين كما يُشاع. مع أن الأفكار والعقل الذي يصنعها ليست من إبداعنا وصنعنا أبداً بل هي لله الخالق المصور.
ما حفزني لهذه الفكرة مثلاً، هو إعادة قراءتي لكتابين في هذه الفترة بالذات وأنا وغيري نتساءل ما الذي يحدث حقاً؟ هما من أهم الكتب التي ظهرت إبان عصر النهضة الأوروبية بين القرنين 61 - 18 للميلاد، أي عصر ولادة الدولة الحديثة شكلاً ومضموناً. الأول هو كتاب «الأمير - The Prince» لمؤلفه نيكولا مكيافيلّي (Niccol dei Machiavelli)، وكتاب «روح القوانين - The Spirit of the Laws» لمؤلفه (شارل لوي دي سيكوندا) المشهور باسم «مونتسكيو- Montesquieu». كلاهما خرجا من تحت عباءة النهضة الأوروبية التي أعلنت الثورة على النظام العقيم الذي يستند إلى ازدواج السلطتين: الروحية المفسدة في الأرض، والسلطة الزمنية المستبدة في الأرض. مع ما صاحب ذلك من تغيّر نمط الاقتصاد العالمي إثر الكشوف الجغرافية الأوروبية الكبرى في العالمين القديم (آسيا – إفريقيا - أوروبا) والجديد (الأميركتين وأستراليا).
فالأول، (الأمير)، طرح من خلاله (مكيافيلّي) آراء متطورة عن كيفية تكون الدول أو (الإمارات) كما سماها ووسائل المحافظة عليها وأسباب فقدها. إلا أن أخطر ما دعا له في كتابه المذكور وأتخذه شعاراً، بعد ذلك، بعض الملوك والأباطرة والأمراء وصار أسوة تتبع ومنهجاً يُعتنق من قبل بعض الحكام حتى اليوم؛ هو ما ذكره في الفصول الأخيرة من كتابه أي من 15 إلى 26. فيما صار يُعرف باسم «السياسة المكيافيلّية»، وبعنوان مؤثر حفظه معظم الناس وهو «الغاية تبرر الوسيلة». وباستثناء ما اسماه الفضائل كما أوردها (الأمير) في كيفية الحكم والتي أصبحت رذائل حين طُبقت على الأرض لأن قوامها هو الخداع والكذب؛ فقد ذكر (مكيافيلّي) أيضاً كثيراً من النصائح التي لو اتبعها الحكام لما فقدوا شعوبهم وسلطتهم. من تلك النصائح: على الأمير أن يكون كريماً محسناً، وفياً بالعهد مع شعبه، بل يجب أن يتعلم كيف يتجنب التصرفات الخسيسة التي تفقده شعبه ودولته. والأهم مما قاله: جميل أن يكون الأمير حر النزعة مما سيؤدي به لكسب قلة من الناس، معظمهم منافقون، إلا فيه أيضاً إتاحة لخلق روح المقاومة لدى الكثرة بين شعبه. وأخطر ما أورده (مكيافيلّي)في آرائه أن الأمير في علاقاته الخارجية يجب أن يكون بين مركب بين الإنسان والحيوان. وفي حالة تلبس الأمير بأساليب الحيوانات وتصرفها يفضل أن يتخذ من بينها الثعلب والأسد. وكم من أمير اتخذ من أسلوب (مكيافيلّي) القاسي في الحكم الذي يعتمد على البطش والتنكيل والمراوغة والقسوة بأساليب حيوانية انطلاقاً من أن الوسيلة مهما كانت قذرة فالغاية والهدف يبررها؛ فهل نجح هؤلاء في الحفاظ على دولتهم ومحبة شعبهم لهم حتى ولو بعد ثلاثين وأربعين عاماً؟
ثم لا ننسي أن كل آراء وأفكار (مكيافيلّي) العنيفة ولدت في مخيلته نتيجة لما قاسته إيطاليا - بلده - من تقسيم وخراب آنذاك تحت السيطرة الأجنبية من جيران إيطاليا. وبعد أن فقد الأمل في الحرية والديمقراطية والجمهورية، أيد عنف الأمير لأنه رأى فيه السبيل الوحيد لتحقيق الحلم الإيطالي ضد السيطرة الأجنبية وتكوين دولة قوية وجيش وطني دائم يعتمد على سواعد أهل البلاد وليس من خارجها. ومع ذلك، لا يجب أن ننسي للحظة واحدة أن كل أساليب الغش والخداع والكذب التي علّمها (مكيافيلّي) للحكام، كان يراها في الأصل من حيث المبدأ مجرد «رذائل» لهؤلاء الحكام.
وبعكس ما طرحه (مكيافيلّي) قاله (مونتسكيو) الفرنسي في كتابه «روح القوانين». وهو كتاب نقد رقيق مستخف بنظم وتقاليد زمانه.
وما يميز (مونتسكيو) هو أنه تنقل من قطر لآخر وقضي في ذلك عشرين عاماً للوقوف على قضية مهمة جداً هي أساس مشاكلنا اليوم، مع أنه كتبها العام 1748، وهي: الإنسان والأنظمة. كره (مونتسكيو) الاستبداد السياسي كرهاً شديداً، لماذا؟ لأن هذا المفكر يعلم بخبرته الحياتية والعلمية أن الاستبداد السياسي يولد انفجاراً في كل جوانب الجهاز الاجتماعي يطيح بأربطته لتنهار البلاد بكاملها فوق رؤوس المستبدين والشعب. ولأنه إنسان ذكي، وليس أحمق، فقد فهم أن الاستبداد السياسي لا يقوم به - كما يقول - سوى الحيوان الأحمق!. كما يضيف أنه ينبغي لتكوين حكومة معتدلة، ترتيب السلطات وضبطها وتسيّرها سيراً هادئاً معتدلاً. بينما لا تتطلب الحكومة المستبدة سوى بعض الحمقى وناقصي العقل والموتورين وأن يُطلق فيها العنان للهوى وشهوة السلطة. وبالتالي تصبح الطاعة المتطرفة تفترض الجهل فيمن يمتثل لها من الشعب، بل وتفترض الجهل أيضاً من المستبد إذ ليس به حاجة إلى التعليل وإنما يكفيه مجرد الرغبة والميل. وأعظم ما قاله (مونتسكيو) في كتابه تلك العبارة المؤثرة حقاً في من يقرأها بتمعن شديد ووعي حصيف ليصبح أعظم السياسيين في عصرنا: «إن الحكومة الرشيدة هي التي تبذر وتجني أروع الثمار، بينما الاستبداد والحكومة المستبدة هو ذلك الهمجي الذي يقطع الشجرة ليحصل على ثمارها». وختم كتابه القيّم بالقول: «إن الاستبداد هو وباء ينخر عظام الكيان السياسي ويهدده بالفناء في كل مكان. ويجب على أية أمة رشيدة بقياديها أن تسعي على الدوام بكل ما أوتيت من (ذكاء) وهو عكس الغباء، والحكمة وهي عكس الحماقة، وبفضل ما أوتيت من عقل وهو عكس الخواء واللاعقل، وفضيلة وهي عكس الرذيلة؛ إلى تحصين نفسها ضده».
ولا عيب أن نتعلم من الصغير قبل الكبير، ومن المرأة قبل الرجل، ومن الشيخ قبل المراهق، وأن ألف باء السياسة يتعلمها الطالب وكذلك من فاته قطارها أيضاً حتى لا يؤتى كتابه وراء ظهره فيدعو ثبوراً. وأن من يخطئ ويعترف بخطئه ليصلحه من أجل الصالح العام للأمة بشموليتها، هو الفاضل حقاً لأن الاعتراف بالخطأ فضيلة وليس رذيلة. فهل نحن فاعلون بانتشال أنفسنا من براثن أمير (مكيافيلّي) إلى أحضان روح قوانين (مونتسكيو) والتي هي الحضن الحقيقي للحكمة والعقل والعيش المشترك والمواطنة الصالحة؟ أظنه حُلم ليس بمحال التحقيق
إقرأ أيضا لـ "محمد حميد السلمان"العدد 3321 - الإثنين 10 أكتوبر 2011م الموافق 12 ذي القعدة 1432هـ
رأي في الصميم
ميكافيلي مصيب في رأيه وتقييمه، فحينما يكون معظمهم منافقون، يلتفون حول مصالحهم الفئوية، فمن الطبيعي أن يخلق ذلك روح المقاومة لدى كثرة الشعب.
كتابة قيمة
شكرا لكتاباتك التاريخية العميقة دكتور السلمان. ننتظر كتاباتك كل اسبوع.
ما المقصود؟
ما المقصود من قطع الشجرة؟هل قطع أرزاق الناس من خلال الوشاية والحصول على شهادة مزيفة إسمها "ولاء للوطن" تنطبق على نفس الشجرة المقطوعة من الجذور للحصول على الشيء اليسير من ثمارها!!!.