العدد 3314 - الإثنين 03 أكتوبر 2011م الموافق 05 ذي القعدة 1432هـ

غاندي محرّراً وضميراً حياً

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

أول مكالمة صباح أمس من صاحب مدرسة خاصة، يخبرني أنه قرأ كتاب «قصة تجاربي مع الحقيقة» مرتين مثلي، مرة في السبعينيات والثانية في التسعينيات. أما الثانية فمن شابٍ يستفسر عن الكتاب ليقتنيه، فسألته مازحاً عن تاريخ ولادته، فضحك وقال: 1979. فقلت له: نسختي مطبوعة في العام نفسه، وسمّيت له بعض المكتبات.

أهمية غاندي تكمن في ابتكاره أسلوباً جديداً لمقاومة الظلم، بتبنيه فلسفة «الساتياغراها» (اللاعنف)، وقدّمها للعالم سياسةً ناضجةً، أثّرت في الكثيرين من مختلف القارات، وأصبح ملهماً لعدد من الزعماء الذين حملوا شعلة النضال من أجل غدٍ أفضل للإنسان... فالفكرة السليمة التي تمثل قضيةً إنسانيةً مشتركةً، كالكلمة الطيبة التي تجمع القلوب.

القس الزنجي مارتن لوثركنغ الذي تولّى مقاومة القوانين العنصرية في الولايات المتحدة في الخمسينيات والستينيات، أكد تأثره بأفكار غاندي كما ورد في سيرته «النفير». كما تأثر به الزعيم الزنجي نيلسون مانديلا (كما ورد في مذكراته)، الذي قضى خمسين عاماً من حياته في مناهضة نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا. وقضى 28 عاماً منها في السجن، مع عددٍ من زملائه المناضلين من السود والهنود والملوّنين. وعُزِل عنهم في السنوات الثلاث الأخيرة ليدخل في مفاوضاتٍ شاقةٍ مع النظام لإقناعه بالتخلّي عن هذه السياسة التي لم تعدّ مقبولةً في العالم الحر. وكان أقرب حلفاء النظام التقليديين (بريطانيا وأميركا)، قد بدأوا بالضغط على الرئيس دي كليرك لإحداث التغيير، رغم خضوعهما لقيادتين يمينيتين متشددتين (مارغريت ثاتشر ورونالد ريغان). كان نظام الفصل العنصري وصل إلى طريق مسدود.

هذا هو التأثير الضخم لغاندي في الخارج، أما في الداخل فتأثيره أكبر وأضخم، ولا أبالغ إذا قلت إنه رسم خارطة طريق طويلة المدى للهند، التي ظلّت تستلهم أفكاره وتعود إليه في المنعطفات. وللتأكد من ذلك يمكن للمرء أن يتذكر حين ابتعدت الهند عن نهجه في بعض المراحل، تورطت في حروب خارجية وفتن طائفية، أودت بحياة الملايين من الهندوس والمسلمين والسيخ.

غاندي اغتيل مع بداية استقلال الهند، لكن أثره كان واضحاً على الدولة الهندية حتى الآن، فقد أسست أفكاره دولةً حديثةً، قائمةً على ديمقراطيةٍ حقيقيةٍ، رعاها من بقي من أصدقائه وتلامذته في النضال. وفي السبعينيات، تنبأ مستشار الأمن القومي الأسبق الأميركي بريجنسكي بسقوطٍ قريبٍ للديمقراطية الهندية، لكن ما حدث اخلف توقعاته، لسبب بسيط، هو أن البنيان الذي أقامه غاندي كان قوياً وسليماً، ولم تحدث فيها انقلابات. بالمقابل، فإن الجارة المسلمة باكستان، التي أعلن استقلالها في اليوم نفسه، يتناوب على قيادتها العسكر ومن هم غارقين في قضايا فساد.

هذا الرجل الذي طبع الهند بطابعه، كان صاحب ضمير حي، أول معركة دخلها في جنوب إفريقيا انتصاراً للعمال. وفي بلاده دخل معركةً كبرى مع قومه للدفاع عن المنبوذين، الذين يقبعون في قاع المجتمع، كإحدى مسلمات العقيدة الهندوسية. وكان الرجل يزور قراهم البائسة ويشارك في تنظيفها، وتنظيف مراحيض تلك البيوت المتهالكة.

لقد أسقط غاندي تقاليد متخلّفة عمرها خمسة آلاف عام، وأسّس لنظامٍ يسمح بوصول طبقة المنبوذين (التي تمثل 16 في المئة من السكان)، أسوةً بغيرهم من المواطنين، حتى وصل أحدهم (آر كيه نارايانان) إلى رئاسة الهند العام 1997؛ ووصلت إحدى نسائهن (ميرا كومار) إلى رئاسة البرلمان بالانتخاب وليس بالكوتا أو الفهلوة أو التعيين العام 2005؛ وتولّى أحدهم منصب كبير القضاة بالمحكمة العليا العام 2006.

الهنود لا يدّعون أن بلادهم أصبحت مدينةً فاضلةً، لكنها امتلكت القنبلة النووية، وحقّقت استقلالها السياسي والاكتفاء الذاتي، وهي إحدى دول الاقتصاديات الصاعدة «البريكس» الخمس، (إلى جانب روسيا والصين والبرازيل جنوب إفريقيا)... هل أدركنا ماذا فعل غاندي؟ ولماذا أسماه الهنود المهاتما (الروح العظيمة)؟

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 3314 - الإثنين 03 أكتوبر 2011م الموافق 05 ذي القعدة 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 11 | 9:02 ص

      تأثر غاندي بالبراهمانية التي هي عبارة عن ممارسة يومية ودائمة تهدف إلى جعل الإنسان يتحكم بكل أهوائه وحواسه .. ام محمود

      تأثر غاندي بعدد من المؤلفات كان لها دور كبير في بلورة فلسفته ومواقفه السياسية منها نشيد الطوباوي وهي عبارة عن ملحمة شعرية هندوسية كتبت في القرن 3 قبل الميلاد واعتبرها غاندي بمثابة قاموسه الروحي ومرجعا أساسيا يستلهم منه أفكاره إضافة إلى "موعظة الجبل" في الإنجيل وكتاب "حتى الرجل الأخير" للفيلسوف جون راسكين الذي مجد فيه الروح الجماعية والعمل بكافة أشكاله وكتاب الأديب تولستوي الخلاص في أنفسكم الذي زاده قناعة بمحاربة المبشرين المسيحيين وأخيرا كتاب الشاعر هنري ديفيد العصيان المدني

    • زائر 10 | 8:55 ص

      نشر غاندي سياسة المقاومة السلمية أو اللاعنف واستمر على مدى أكثر من خمسين عاما يبشر بها ....... ام محمود

      فعليا"، وهي لا تعني كذلك عدم اللجوء إلى العنف مطلقا "إنني قد ألجأ إلى العنف ألف مرة إذا كان البديل إخصاء عرق بشري بأكمله". فالهدف من سياسة اللاعنف في رأي غاندي هي إبراز ظلم المحتل من جهة وتأليب الرأي العام على هذا الظلم من جهة ثانية تمهيدا للقضاء عليه كلية أو على الأقل حصره والحيلولة دون تفشيه.
      أساليب اللاعنف
      وتتخذ سياسة اللاعنف عدة أساليب لتحقيق أغراضها منها الصيام والمقاطعة والاعتصام والعصيان المدني والقبول بالسجن وعدم الخوف من أن تقود هذه الأساليب حتى النهاية إلى الموت.

    • زائر 9 | 8:51 ص

      من مقال بعنوان "حياة غاندي" لناجي لطيف ..... ام محمود

      أسس غاندي ما عرف في عالم السياسية بالمقاومة السلمية أو فلسفة اللاعنف الساتياراها وهي مجموعة من المبادئ تقوم على أسس دينية وسياسية واقتصادية في آن واحد ملخصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمحتل عن طريق الوعي الكامل والعميق بالخطر المحدق وتكوين قوة قادرة على مواجهة هذا الخطر باللاعنف أولا ثم بالعنف إذا لم يوجد خيار آخر
      اللاعنف ليس عجزا
      وقد أوضح غاندي أن اللاعنف لا يعتبر عجزا أو ضعفا ذلك لأن الامتناع عن المعاقبة لا يعتبر غفرانا إلا عندما تكون القدرة على المعاقبة قائمة

    • زائر 8 | 5:51 ص

      درس بليغ

      أسقط غاندي تقاليد متخلّفة عمرها خمسة آلاف عام، وأسّس لنظامٍ يسمح بوصول طبقة المنبوذين إلى رئاسة الجمهورية والقضاء والبرلمان ونحن العرب مازلنا نعارض الاصلاحات الديمقراطية.

    • زائر 6 | 1:58 ص

      "النور لا يقضي على الظلام بل يبدده"

      قد لا يتذكر أحد ملوك الهند قدر ما يتذكرون غادي. فقد تُوجت أفعال غاندي بشهادته، فليس الشعب الهندي فقط بل كل أحرار العالم يشهدون له باستحقاق الخلد. فقد أعطى للبطولة عنوانها الحقيقي الذي استمده من الحقيقة عينها. فكلما ذكرت الهند تذكر غاندي لا شعورياً.
      أدرك غاندي ان القيم والمباديء أسمى من العادات والتقاليد، فرأى فيها الحق ينتصر ليس بالقوة بل بالسلم، وذلك لبديهية أن الحق لا يحتاج إلى قوة تنصره، بل العكس هو القوة التي تبدد الظلم... ورغم ذلك أكثر الناس للحق كارهون..

    • زائر 5 | 1:54 ص

      مدرسة النضال

      تعلم مانديلا ولوثر كنغ من المهاتما غاندي، وتعلم غاندي من الامام الحسين سبط رسول الامة (ص) كيف يكون مظلوماً فيتنصر.

اقرأ ايضاً