«المصطلح المسرحي عند العرب»، «دراسات في المسرح»، «الوجه والقناع في المسرح»، «نحو تحليل دراماتورجي»، «معجم المصطلحات المسرحية». هي سلسلة من الكتب التي جعلت من الباحث المسرحي المغربي، أحمد بلخيري أحد الوجوه الفاعلة اليوم في المشهد النقدي المسرحي في المغرب. صوت لا يهادن؛ ما جعله دوماً في معمعان الجدال الفكري والمعرفي مع باحثين ونقاد في المسرح والفن. نستضيفه كي نعيد نسج تفاصيل المشهد النقدي المسرحي اليوم في المغرب والعالم العربي.
نفتتح هذا الحوار بالسؤال حول الخطاب النقدي المسرحي في المغرب، ما هي سمات ومعالم هذا الخطاب اليوم؟ وهل يمكن الحديث عن نقد مسرحي في المغرب بسمات نقدية؟
- يمكن القول، بأن الخطاب النقدي المسرحي في المغرب اليوم، والأمر يتعلق هنا باجتهادات الباحثين المغاربة في مجال المسرح، يشق لنفسه طريقاً واضحة. ترتكز على ضبط المصطلحات والمفاهيم، والوضوح المنهجي، والتخلص من إسار الايديولوجيا، والتمييز بين موضوع البحث والنقد وصاحبه. لكن هذه العناصر الأربعة المذكورة لا تنطبق على كل المنجز البحثي المسرحي المغربي في وقتنا الراهن؛ إذ يمكن بسهولة رصد نقائضها في بعض الكتابات. هذه النقائض ليست وليدة اليوم، فهي تنتمي إلى مرحلة سابقة تعود إلى سبعينيات القرن العشرين. من الدلائل الواضحة التي تبرهن على ارتكاز قسم من البحث والنقد المسرحيين في المغرب اليوم على المرتكزات أو العناصر السالفة الذكر، أذكر كتابي عبدالواحد بن ياسر «حياة التراجيديا» و»المأساة والرؤية المأساوية في المسرح العربي الحديث». فهذان الكتابان، وغيرهما لباحثين مغاربة، يقدمان صورة واضحة عن حال ووضعية البحث والنقد المسرحيين المغربيين اليوم.
هذا، على رغم أن لي بعض الملاحظات على الكتابين معاً. أخص بالذكر منها عدم التفات الباحث عبدالواحد بن ياسر في كتابه «حياة التراجيديا» إلى الشرّاح العرب القدماء لكتاب «فن الشعر» لأرسطو. وقد تبين لي من خلال قراءة الكتاب الثاني «المأساة والرؤية المأساوية «أن عدم التفاته في الكتابين معاً راجع إلى فكرة تبدو لي غير صحيحة. لقد أشار في كتابه الثاني «المأساة والرؤية المأساوية»، وقد انتقد أحكاماً استشراقية ظل يرددها بعض المفكرين والأدباء بحسب قوله، إلى كون ابن رشد «استعمل كلمة الهجاء للدلالة على الكوميديا، وكلمة المديح للتعبيرعلى التراجيديا» (ص/14). وأصحاب هذا الرأي هم المستشرقون بالذات، نقله عبدالواحد بن ياسر عن كتاب «الإسلام والمسرح» لمحمد عزيزة (ترجمة رفيق الصبان) دون فحص مضمونه عن طريق قراءة شرح ابن رشد لكتاب «فن الشعر» لأرسطو. فلا وجود إلى أي دليل يشير إلى قراءته لشروح العرب القدماء ومنها شرح ابن رشد. وعليه فقد تبنى حكماً استشراقياً، على رغم نقده للاستشراق من خلال نقده للمركزية الأوروبية ومصطلح «أشكال ماقبل مسرحية».
في شرح ابن رشد هناك تمييز بين الهجاء، الغرض الشعري العربي المعروف، وصناعة الهجاء أي الكوميديا؛ كذلك هناك تمييز بين المديح، الغرض الشعري العربي المعروف أيضاً، وصناعة المديح. هذا بالإضافة إلى وجود مصطلحات عديدة في شرح ابن رشد والشروح العربية الأخرى ليست عربية الأصل. فهي تتصل يالتراجيدايا والمسرح عموماً وليس بالشعر العربي. وحتى لو افترضنا أن هناك خلطاً فهل نهيل تراب النسيان على سائر المصطلحات الأخرى المتصلة بالمسرح والتراجيديا في تلك الشروح؟. لقد بسطت القول في هذا الموضوع في كتابي «المصطلح المسرحي عند العرب». وهنا أود أن أشير إلى أن جمال الدين العلوي، مؤلف كتاب «المتن الرشدي»، فطن إلى وعي ابن رشد الظاهر «بتباعد طبيعة الشعر اليوناني وطبيعة الشعر العربي، ومن ثم وعيه بصعوبة تطبيق القوانين الأرسطية في الشعر على ديوان العرب». وقد استنتج بأنه «يمكننا أن نستشف من وراء الترجمة المقترحة، شكلاً أولياً من أشكال مقاومة المأساة، ومحاولة لطمسها عن طريق توظيف أنماط الثقافة الأصلية وقيمها ومعاييرها». هذا الاستنتاج يبدو لي أنه في حاجة إلى تدقيق؛ بل إلى إعادة نظر. ذلك أن عبارة «شكلاً من أشكال مقاومة المأساة» تدل على وجود قصد وإصرار. وهما لا يكونان إلا إذا تمت قراءة النصوص التراجيدية الإغريقية من قبل أولئك الشرّاح وإدراكهم طبيعة الصراع، وهو صراع فكري ميتافيزيقي، الذي تقوم عليه. فهل هناك دليل يبرهن على اطلاعهم تلك النصوص وقراءتها وإدراك طبيعة الصراع فيها ثم مقاومة المأساة بعد ذلك الاطلاع وتلك القراءة؟. هذا، علماً بأنهم استعملوا أيضاً كلمتي الطراغوذيا والقوموذيا وكذلك الدراماطا، كما استعملوا مصطلحات أخرى مستمدة من الثقافة اليونانية وليس من الثقافة الأصلية. فلماذا يتم التركيز على مصطلحين اثنين ويتم إغفال مصطلحات أخرى؟. وبالمقابل، أنصف عبدالواحد بن ياسر الأبحاث الإثنوغرافية الاستعمارية التي أقر بأنها كانت سبّاقة إلى دراسة أشكال فرجوية تقليدية مغربية، ومنها «الحلقة» و»مسرح البساط» و»سلطان الطلبة». إن الملاحظة السابقة لا تنال أبداً من أهمية كتابي عبدالواحد بن ياسر. وعموماً، يمكن القول بأن البحث المسرحي في المغرب أو المغربي، خلا استثناءات، يضع اليوم أسس بحث يتسم بالصدقية والعمق، ويرتكز على الوثائق وليس على الأهواء والعموميات. وقد استفاد هذا البحث من التطورات المنهجية المعاصرة، كما يتجلى ذلك من خلال كتابي «المسرح المغربي قبل الاستقلال» لرشيد بناني، و»اللغات الدرامية وظائفها وآليات اشتغالها» لمحمد أبي العلا. فقد استفادا من السيميولوجيا والتحليل الدراماتورجي في الكتابين المشار إليهما سابقاً.
- تطرح الممارسة المسرحية في المغرب عدة أسئلة على مستوى المنجز وما تفرزه من رؤى، كيف يمكننا تمثل أقانيم هذه الممارسة اليوم؟
- تتميز الممارسة المسرحية المغربية اليوم بالتعدد على مستوى الإنجاز وعلى مستوى الرؤى التي يتضمنها هذا المنجز المسرحي. فعلى مستوى الإنجاز نلاحظ نشاطاً ملحوظاً متزايداً للمسرح الأمازيغي؛ الأمر الذي أدى بجميل حمداوي إلى نشر كتاب في الموضوع. وهذا يطرح سؤالاً أساسياً بشأن مفهوم المسرح المغربي؛ إذ لابد أن يتضمن هذا الأخير رافداً من روافده أو جزءاً من أجزائه هو المسرح الأمازيغي المغربي.
كما أن هذا الإنجاز يفرز عدة أسئلة حول الأطر الفنية والفكرية التي يرجع إليها الفضل في إبداع المسرح (بغض النظر عن القيمة الفنية والفكرية). فلا بد أن نتساءل مثلاً عن إبداعات خريجي «المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي» في هذا المجال وجودتها الفنية، وانعكاس التكوين المسرحي، في مختلف تخصصاته، لديهم على مستويات الأداء والإخراج والسينوغرافيا(...) فقد مرّت مدة زمنية كافية لجعل المسرحيات التي يبدعها هؤلاء تحت مجهر البحث والتحليل من قبل الباحثين والنقاد. وهنا لابد من توفر المادة الأساسية لهذا البحث وهذا التحليل أي الوثائق الضرورية. هذا دون إغفال إبداعات مسرحية عديدة لجمعيات مسرحية مغربية، ومنها «أبعاد» التي يشرف عليها ويخرج مسرحياتها الباحث المسرحي عبدالمجيد شكير، وفرقة «ورشة الإبداع-دراما» بمراكش وفرق أخرى أثبتت مهارتها الفنية المسرحية. أفرزت الممارسة المسرحية أيضاً مؤلفاً درامياً حقيقياً هو الزبير بنبوشتى.
وبطبيعة الحال، فإن الرؤى شديدة التباين والاختلاف. وهذا أمر طبيعي. هذا الاختلاف يلاحظ حتى على صعيد الفرقة الواحدة، أخذاً بالاعتبار كل ربرتوارها المسرحي حتى اليوم، كما هو الشأن بالنسبة لفرقة «أبعاد».
انتقل الحديث عن المسرح في المغرب، من الحراك والدينامية التي عرفها مسرح الهواة في المغرب الى المسرح الاحترافي وما حققه من طفرة نوعية. بداية كيف تقرؤون هذا العبور، وهل حقق المسرح الاحترافي الآمال المرجوة والتأثير المطلوب؟
- أولاً لابد من التدقيق في مفهوم «المسرح الاحترافي». فليس كل ما يتم إدراجه اليوم بالمغرب، لسبب من الأسباب، تحت هذا المفهوم يندرج فعلاً فيه. وقد اختلط مفهوم «المسرح الاحترافي» بالدعم المالي الذي تقدمه وزارة الثقافة المغربية للمسرح المسمى عندها احترافياً. وهذا زاد من غموض والتباس مفهوم الاحتراف، ليس من الناحية النظرية ولكن من الناحية الفعلية.
ويبدو لي أنه بسبب غموض والتباس مفهوم «المسرح الاحترافي» أدى عملياً إلى خيبة آمال كبرى. ويكفي المتتبع أن يشاهد ما يعرض في المهرجان الوطني للمسرح الذي ينعقد سنوياً بمكناس، ويتابع ما تكتبه الصحافة عقب انعقاد المهرجان المذكور. هذا، علماً بأن هناك استثناءات لكنها قليلة.
ويحدّد حجم التأثير هناك مقياس أساسي. هذا المقياس هو مدى الإقبال الجماهيري على هذا المسرح. وفي هذا الإطار، هناك قرائن وأدلة كثيرة تدل على عدم وجود هذا الإقبال الجماهيري. وهذا يتنافى مع المسرح ذاته باعتباره فناً جماهيرياً. وتلك مفارقة كبرى. تجدر الإشارة إلى أن هذا المسرح الموصوف بكونه احترافياً يتكون من خليط بشري تختلف درجات تعليمه، كما تختلف أنواع تكوينه. بالنسبة إلى درجات التعليم فهي تبتدئ من التعليم الابتدائي إلى التعليم العالي. أما فيما يتعلق بالتكوين فهناك من لم يتلق تكويناً متخصصاً في المسرح أو في فن من فنونه. وهناك أيضاً من يتوافر على تكوين أكاديمي متخصص في إحدى تخصصات المسرح المتنوعة. هذا الخليط البشري المكون وغير المكون مسرحياً تندرج أعمالهم ضمن هذا «المسرح الاحترافي». هذه الملاحظة لا تتعلق بممارسة المسرح في حد ذاتها، فهذا لا يمكن لأن الإبداع تلعب فيه الموهبة، إذا وجدت، دوراً كبيراً، ولكن الملاحظة تتعلق فقط بمفهوم «الاحتراف». فهل هناك احتراف مسرحي بدون تكوين مسرحي؟
داخل هذا الانشغال النظري ما هي محدّدات حضور النقد المسرحي داخل السياق الثقافي العام في المغرب؟ وهل هي سمة مغربية أم تتعداه لتتحول الى طبيعة عربية؟
- يمكن القول، إن السياق الثقافي العام يتميز بالاجتهاد والانفتاح على الثقافات العالمية. نستشف هذا مثلاً من خلال الفكر الفلسفي في المغرب، وكذلك من خلال النقد الروائي والنقد الشعري. ففي هذه المجالات يبدو أن هناك إبداعاً مغربياً غير مسبوق. يكفي أن نذكر على سبيل المثال، المفكر محمد عابد الجابري والمؤرخ والمفكر والروائي عبدالله العروي والباحث الأنثربولوجي عبدالله حمودي والباحثان محمد مفتاح وسعيد يقطين الذي امتد اهتمامه إلى النص المترابط؛ إذ نشر كتاباً في هذا الموضوع عنوانه: «النص المترابط ومستقبل الثقافة العربية (نحو كتابة عربية رقمية)». ولم يشذ البحث المسرحي المغربي عن هذه الدينامية على رغم بعض الشوائب. واليوم هناك جيل من الباحثين المغاربة في مجالات معرفية عديدة يبذلون قصارى جهودهم للرقي بالثقافة المغربية والسير بها قدماً نحو المزيد الاجتهاد والعطاء. والواقع يبين أنه لا يمكن وضع جميع البلدان العربية، في هذا السياق، في منزلة واحدة.
ما محل هذه الدينامية اليوم في المغرب داخل المشهد المسرحي العربي؟ بمعنى آخر هل يمكن الحديث عن خصوصية للتجربة المغربية داخل المشهد المسرحي العربي؟
- بحسب ما هو متوافر لدي من معلومات متواضعة، يبدو لي أن هناك إقبالاً، على الصعيد العربي، على البحث والنقد المسرحيين المغربيين. وهذا مؤشر دال على أهمية هذا البحث وهذا النقد. وإذا صح هذا، يمكن القول بأن هذه الأهمية قد تحققت بفضل جهود فردية للباحثين المغاربة في مجال المسرح، وبفضل انكبابهم على تطوير وتجديد أدوات الاشتغال الضرورية. كل ذلك بغية إنتاج معرفة مسرحية سليمة وصحيحة.
كفاعل ثقافي راصد للمسرح العربي، ما هي الرؤى الفنية التي توحد هذا المشهد؟
- الرؤى الفنية التي تؤطر المشهد المسرحي العربي عموماً متعددة. تعدد هذه الرؤى مصدر غنى ودليل على تمسك المبدع المسرحي بحريته. إن الحرية هي زاد المبدع الأساسي. إلا أنني ألاحظ أن الرؤية الفنية الملتحمة، إبداعياً وليس استنساخاً، بالواقع العربي هي السائدة. فعن طريق المسرح يتم تشريح هذا الواقع فنياً من أجل إعادة فهمه، كما تتم إماطة اللثام بواسطته عن الخفي والمظلم والمسكوت عنه فيه.
هل تتفقون مع المقولة القائلة أن نتحدث عن المسرح بالجمع، عوض مقولة المسرح العربي، بحكم أن لكل تجربة خصوصيتها الفنية والجمالية؟
- يبدو لي أن البلدان العربية لم تكن في أي يوم من الأيام في مرتبة واحدة على صعيد الإبداع المسرحي. فمن الناحية التاريخية هناك بلدان عربية عرفت المسرح منذ منتصف القرن التاسع عشر، وهناك بلدان عربية أخرى لم تعرفه إلا في مطلع القرن العشرين؛ بل هناك من البلدان من لم تعرفه إلا في منتصف القرن العشرين. وتكفي هنا العودة إلى الكتاب القيم الذي ألفته الباحثة تمارا ألكسندروفنا بوتينتسيفا «ألف عام وعام على المسرح العربي» (ترجمة توفيق المؤذن) لكي تتضح لنا الأمور من هذه الناحية. ومن حيث الإبداع المسرحي ذاته اليوم، يبدو أن هناك تفاوتاً وتراتبية ما في هذا المجال على الصعيد العربي.
وعلى هذا الأساس، ربما كان استعمال المسرح بصيغة الجمع عوض المسرح العربي أكثر مطابقة للواقع. لكن يمكن كذلك استعمال عبارة المسرح العربي مع الأخذ بالاعتبار ما سبقت الإشارة إليه.
الى أي حد أمكننا أن نبلور اليوم خطاباً حول المسرح في مشهدنا النقدي العربي؟
- تشهد الكتب التي ألّفها باحثون ونقاد عرب؛ فضلاً عن المقالات والدراسات المتفرقة، أن هناك خطاباً حول المسرح وفيه يسهم في تطور النقد العربي. ومادام السؤال يتضمن كلمة «اليوم» أود أن أشير إلى كتاب صدر عن «المركز الثقافي العربي» عنوانه «الخطاب المسرحي في العالم العربي» (ط/1، 2007). جمعت فيه الباحثة والناقدة وطفاء حمادي عدداً من المقالات، يتعلق بعضها بعروض مسرحية عربية ظهرت في مطلع الألفية الثالثة، منها عروض مسرحية خليجية. وهذا دليل، من بين أدلة عديدة على الصعيد العربي عموماً، على مساهمة النقد المسرحي العربي في المشهد النقدي العربي. كما أنه دليل على مواكبة النقد المسرحي للمسرح العربي
العدد 3314 - الإثنين 03 أكتوبر 2011م الموافق 05 ذي القعدة 1432هـ