العدد 3313 - الأحد 02 أكتوبر 2011م الموافق 04 ذي القعدة 1432هـ

حين يصبح العادي مستحيلاً

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

لا تبحث عن مكان لك إلا تحت شمس وطنك، وحتى ليله. لا تطمع في الذي بيد غيرك. رُبّيت على القناعة، وعلى ما قسمه الله لك؛ لكن ذلك لا يعني أن تصمت على سرقتك في ليل أو في وضح النهار. تبحث عن عدل غير مستورد. تريد العدل الذي ينبت في أرضك وملحها. العدل الذي لا يخالطه فحص دمك ونواياك «والولاء» الذي بات مصطلحاً أكثر من مطاط، يسحب ويجر، بحسب الذين يعانون من أزمات يريدون حلها عبر ذلك المصطلح والمفهوم الغائم.

الولاء ليس قصائد تدبّج في الدواوين، وتكون بمثابة استثمار، والولاء ليس إعلاناً في صحف تبرز نص الولاء من جهة ونص الشتم من جهة أخرى. الولاء ليس المزايدات والصراخ لدرجة انتزاع اللُوَز من مكانها الطبيعي لتستقر على أسفلت أو رخام لفرط الصراخ. الولاء ليس تخوين الآخر لإثباته. الولاء ليس الكذب في النص وفبركته والتقارير وتسطير الإفك. الولاء ليس الذهاب بالاستخفاف بقيمة الإنسان وعقله، عبر صناعة الأوهام. الولاء ليس إما «نحن» أو «هم» التي باتت رائجة في أدبيات هذه المرحلة غير المتزنة بامتياز. الولاء قيمة تكبر وتنمو وتتأصل حين يجد الإنسان نفسه وقد أحيط بالقيمة والرعاية وإسباغ الحقوق عليه، فيما عينه على الواجبات من دون أن يخل بالأساس والمركز منها.

الهواء الذي أوجده الله على هذه الأرض، يسعك ويسع غيرك. يسع العابرين والمقيمين، يسع الذين يزايدون على الآخرين؛ أو الذين لا يجدون قيمة لهم إلا بالآخرين، وهنا يكمن الفارق. يسع الذين لن يهنأ لهم بال ما لم يروا هذه «الجنة» في المكان وقد تحولت إلى أثر بعد عين، وما لم يتأكدوا من أنهم مهيمنون عليها وعلى أشيائها وبشرها. يسع الذين يقدمون مصلحة وجود ومستقبل وطنهم على مصالحهم ووجودهم، فوجوده مرتبط بهم، ووجودهم مرتبط به. وليس الهواء وحده العادل في توزيع حصصه على الناس. الحس هو الآخر نحلم أن يؤدي الدور نفسه؛ لكنه يصطدم مع طبيعة وحقيقة ومعادن وصبح وليل البشر. لا يمكن أن يمارس العدل ذاته والحصص ذاتها مع من لا يؤمن بالعدل وحق الجميع في التساوي في الفرص والحصص. حصص الحق لا حصص الغنائم!

يدرك العاقل منا، المتاح والمستحيل، في أوطان يصبح فيها العادي مستحيلاً في كثير من الأحيان، ويصبح فيها ضرباً من التجرؤ؛ فيما الذهاب إلى المستحيل يعد ضرباً من التوهم والتجاوز على الخطوط بشتى ألوانها المقررة في أدبيات وسلوك المواطن في دول بتلك المواصفات.

يحتضر كل إيقاع في هكذا أوطان. يحتضر لأنه مشروع نظر لا صوت. لا حق لصوت في أوطان لها حرسها والمدافعون عن امتيازاتهم في البقاء؛ ولو على حساب بقاء الوطن نفسه. لا منزلة بين منزلتين. المنزلة واحدة بعد مراجعتها في كل دوائر الانتماء والولاء بحسب المواصفات والشروط وقائمة القبول!

الأوطان لا تستطيع أن تهبك الوجود إلا بوجودك فيها كشرط أول لتلازم تلك العلاقة. لا أحد في غنى عن الآخر. وإنما تعمر الأوطان وتصبح لها قيمتها الكبرى بعمار نفوس وأرواح مواطنيها. والمواطن هو الذي يمنح الأوطان قيمة وجودها وحقيقتها. وتعزز تلك القيمة حين ترعى الأوطان قيمتك ومعناك ومركزيتك في ذلك الوجود. لا فضل للأوطان على شعوب لم يُلتفت إلى الأدنى من حقوقها وقيمتها. ولا فضل للأوطان حين تمعن في الإهانة لدرجة تحوّل تلك الإهانة إلى ثابت وضرورة. فضل الأوطان حين يتحصل مواطنها على قيمته دون منّ وأذى، ومن دون فواتير تعرض على أجهزة الإعلام، ومن دون تعيير يكاد يتحول إلى نشيد وطني، وموضع فرصة للذين لا معنى لهم في هذه الحياة إلا اكتناز غنائم من عرق وعذابات وإهانات الآخرين.

لا روح لفرد أو جماعة من دون أوطان؛ شرط أن تكون أوطانا لم تطلها حمى التمييز وهوسه حد النفي وأولوية الإزالة والتطهير؛ وشرط أن تكون أوطاناً ساهرة وراعية لكل ما هو تحت مظلة تكليفها لا تشريفها. أن تكون أوطاناً لا تدفع مكوناً من مكوناتها دفعاً للتحريض والتحقير والتحشيد وتعزيز وتغذية الكراهية لديه. أوطان كتلك هي بمثابة مقابر بأوراق رسمية؛ ليس بالضرورة أن تستطيع إثبات أنك على قيد الحياة في ظل ممارستها اللحظية عليك.

وحين تبحث لك عن شمس وهواء، إنما تبحث عن وطنك نفسه؛ لأن الشمس باعتبارها القادرة على اطلاعك على تفاصيل الحياة من حولك بكل دقائقها؛ فالوطن يختصر تلك التفاصيل الجامعة من خلاله وتحت مظلته.الوطن والشمس متلازمان، وحين تبحث عن أحدهما لابد أنك تفتقد الآخر الذي لا غنى لك عنه. ولا يستقيم الاستقرار مع الفقد والافتقاد.الوطن محصن وجامع وحائل دون أي فقد؛ إذا ما حرص على إنسانيتك وحقوقك ولم تحتج أنت مقابل ذلك الحرص لمن يذكرك بالواجب تجاهه.

الأوطان قلاع حين تجمع مكوناتها، وعراء ملغم حين تهيئ بيئة الاحتراب فيها.

تظل في الذاكرة حاضرة مقولة الشاعر والكاتب المكسيكي الحائز جائزة نوبل للآداب العام 1990، أوكتافيو باث: «الحق في الاختلاف واحد من الحقوق التي أغفلها المشرعون يوم وضعوا ميثاق حقوق الإنسان». هل نحتاج إلى تثبيت ذلك الحق في ظل هذا التنوع الذي يثري العالم، والاختلاف الذي يحتاجه من حيث طبيعته وضرورته؟ التساؤلات تترى؛ لكن الالتفات إليها يكاد يشبه العدم

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3313 - الأحد 02 أكتوبر 2011م الموافق 04 ذي القعدة 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 4:06 م

      نعم نحتاج لهذا

      «الحق في الاختلاف واحد من الحقوق التي أغفلها المشرعون يوم وضعوا ميثاق حقوق الإنسان». هل نحتاج إلى تثبيت ذلك الحق في ظل هذا التنوع الذي يثري العالم، والاختلاف الذي يحتاجه من حيث طبيعته وضرورته؟ التساؤلات تترى؛ لكن الالتفات إليها يكاد يشبه العدم

    • زائر 4 | 4:47 ص

      الاستاذ جعفر الجمري

      يكفي انك من بني جمره يكفي بني جمره فخرا انها بلد العلماء والاعلام والخطباء والمفكرين والدكاتره والنخب والمثقفين والاكاديميين والجامعيين والكتاب..

    • زائر 3 | 3:14 ص

      تحية

      تحية الى الكاتب المبدع وتباُ لكل الاقلام المتمصلحة في كتباتها عن الولاء بشكل مفرط على حساب المجتمع!!!!.

    • زائر 2 | 1:00 ص

      الولاء ليس كما تدعون

      ابدعت يا اصيل ، كلماتك تصدر من شخص واثق من نفسة ومن محبته الحقيقية لوطنه عكس بعض الكلمات الركيكة المكررة في بعض المقالات التي يفتقد اصحابها الي الذكاء من جهه وملازمة عقدة الهوية العربية من جهة اخرى فيسبغ على نفسه المهزوزة ببعض الكلمات ثم يرتخي منتعشاً ليقول في نفسه الحمد انني اثبت هويتي ، لكن سرعان ما تعاوده نفسه بعكس ذلك ويبدا في اسطوانة ترديد الولاء ، انها في الواقع امراض نحمد الله انها ليست لدينا

اقرأ ايضاً