من كان يعرف مدى القوة المغناطيسية الجاذبة لكرسي الحكم، التي توهِم أصحابها بأنهم خُلِقوا من أجل الرئاسة فحسب، لم يتفاجأ البتة من عودة الرئيس اليمني علي عبدالله صالح التي وصفت بـ «المفاجئة» إلى صنعاء فجر يوم الجمعة الماضي، على رغم ما حلّ به.
صالح لملم جروحه، وداس على آلامه، وعاد مجدداً للوطن الجريح الذي لا دواء لمصائبه إلا على يدي «الأخ الرئيس» المشوهتين، فهو قدر الشعب اليمني المحتوم الذي لا زوال له ولا اضمحلال.
هكذا تتكرر المشاهد بصورة متناسخة مع الحكام في لحظاتهم الأخيرة، حتى تكاد لوهلة أن تكذّب نفسك، وتصدق أنهم لم يولدوا إلا لهذه المناصب. لم يشأ صدام حسين يومها أن يبيع وطنه ويفر هارباً، ولكنه قرر بالمقابل أن يبقى مختبئاً في جحره ويقاتل حتى آخر رمق، ليس حباً في العراق، ولكن انتقاماً من شعبه الذي خان قائد العروبة وسيفها الصمصام، لذلك قرر أن يحترق العراق بأكمله ويدفع ضريبة «الخيانة».
أما «زين العابدين» فلم يكن أحسن حالاً حين فرّ مرعوباً من غضب شعبه، غير أنه مازال متمسكاً بأنه الرئيس الشرعي الأوحد، حتى وإن كان سيدير جمهوريته بالريموت كونترول عن بُعد. وفي إثره فضّل «الريّس» حسني مبارك أن يجرجر إلى المحاكم على سريره الوفير كأنه مومياء، على أن يغادر مصر، لعلّ الأمور تسنح في طرفة عين لعودة ميمونة إلى العرش ولو إلى وريثه، فكل الدلائل تشير إلى وضع غامض مازالت تتحكم فيه أنصار مبارك، وإن حسم الشعب قراره بألا عودة لفلول النظام البائد.
والمشهد الأكثر مقاربة بطله شيخ القذاذفة، الذي أبهر العالم بتماديه في تحقير الشعب الذي صبر على طيشه 42 عاماً، فكان قدره مشابهاً لما نعت به شعبه من «جرذيّة» تفر خائفة من جحر إلى جحر، لا تجد مأوى ولا ملجأ، تواجه مصيرها الأسود الذي ارتضته لنفسها.
وهكذا، بعد رحلة «ترقيع» صعبة استمرت ثلاثة أشهر، كان بإمكان الرئيس اليمني أن يكتفي بما أصابه متّعظاً، ويقرر النأي بنفسه بعد 33 عاماً من الإمساك بتلابيب الحكم، وترك شعبه المألوم يقرر مصيره لوحده، لكنها القوّة الساحرة التي تشدّه لكرسيّه الذي وعد غير مرّة بالتنحي عنه ثم لم تطعه نفسه. تلك المغناطيسية جعلته يعود متعكّزاً على بقايا مؤيديه، ممن يساندونه ليس رغبة في قدراته الخارقة ولكن لاستخدامه من أجل تصفية حسابات قبلية معروفة تجعل الأمر شائكاً أكثر.
عاد صالح، ومازال متيقناً أن «العَود أحمد». عاد وعادت دماء الأبرياء من طلاب الحرية تتساقط مجدداً لترسم له بساطاً أحمر يطأه بأخمص قدميه. هكذا تكون تصريحات اللحظات الأخيرة: دعوة إلى «هدنة كاملة وإيقاف إطلاق النار تماماً» تسدد في إثرها الأعيرة النارية إلى رؤوس معارضيه، وإعلان أن «الحل ليس في فوهات البنادق والمدافع، وإنما في الحوار والتفاهم وحقن الدماء»، ليتساقط في الوقت نفسه عشرات القتلى من أبناء اليمن المسالمين.
ذكّرتني كلمة «المسالمين» بأحد الاخوة اليمنيين الذين فرّوا بجلدهم إلى دولة عربية، حين قال لي ذات لقاء: «أشد ما يعجبني في شعبنا تشبثه بسلميته على رغم يقيني بأن لا بيت يخلو في اليمن من سلاحين على الأقل!». هكذا تواجه الشعوب المظلومة البطش، وتخاطب قاتلها:
فهب أن قد ملكت الأرض طُراً
ودان لك العبادُ فكان ماذا؟
أليس غداً مصيرُك جوف قبرٍ
ويحثو الترب هذا ثم هذا؟!
غير أنهم لن يتعظوا أبداً مادامت القوة الجاذبة
إقرأ أيضا لـ "عبدالله الميرزا"العدد 3308 - الثلثاء 27 سبتمبر 2011م الموافق 29 شوال 1432هـ
عيسي الرفاعي
وماذا عن بشار
لا تعليق
كل العالم سمع تفسير القذافي للدمقراطية .... عجبي للحذف .... وشكرا
سلمت للحق ياابا سجاد
مقال رائع وفي الصميم من شخص ولا اروع
مقال يجب أن يقرأ لأخد العبرة والموعظة
ثق أخي الكريم أنك لن تجد أحدا من الحكام يقول : دعوني والتمسوا غيري .. إلا الذي قال : و الله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت ..! وهو القائل : يا دنيا غري غيري ، طلقة ثلاثا لا رجعة لي فيك .. فلن تجد في الدنيا من يتنازل عن كرسي الحكم أبدا .
هبه من الله
اخى فى الله ياعبدالله
كل الحكام يؤمنون ان الكرسى هبه من الله اليهم ولايجوز لاحد من الناس ان يزيحهم عنه الا الموت .
يجب على البطانه ان تنصحه بالمعروف ان اطاع واصلح فتمت والا يترك .
لذا تراهم يبصبصون له ولاينصحون لان بطونهم مشحونه من خيراته ومدسمه شواربهم .
الحال
دوام الحال من المحال-- وشكراُ للكاتب المحترم لتوضيح مدى تمسك أصحاب الكراسي حتى أخر رمق من الحياة!!!.
مقال رائع
سلِمت أنامِلك على ما خطت تحيه لك ولقلمك المميز