بعض البشر يكتب ليحيا، وبعض البشر يكتب ليحيا على حساب الآخرين، وبعض ثالث يكتب ليحيا ويحيا معه الآخرون، وبعض رابع يكتب ولا يهمه أن يحيا مادام الذي يكتبه سيسهم في حيوات كثيرين، وبعض خامس يكتب ولن تحس أنه كتب أو سطَّر أو مرَّ أساساً في ذاكرتك، وعبر كتابته تلك لن يقدر له أن يحيا بها، ولأنه فاقد لتلك القيمة، لن يستطيع أن يهب الآخرين ما يفتقده.
والذين يذهبون إلى الكتابة وهم يفتقرون أدنى حس بما حولهم، وخصوصاً الكتابة في الشأن العام، لا تتجاوز كتابتهم استعراضاً للخيبة والفشل الذي يكتنزون به؛ علَّ الكتابة تحقق لهم ما افتقدوه، وما لم ينشأ داخلهم أساساًَ، وليسوا أهلاً له. هم يمارسون عبر تلك الكتابة خيباتهم؛ وإن رفعوا شعار الحقوق، وأطنبوا في الحديث عن المثل والقيم والحريات.
كل كتابة باردة جامدة؛ حتى لو استغلت آلام وأوجاع وانتكاسات وخيبات الناس، لا تختلف كثيراً عن حملات تبرُّع بالدم لا يذهب إلى مستحقيه؛ بل يذهب إلى القتلة في الجهة الأخرى من المكان والزمان.
كل كتابة لا تسهم في حرية مكانها وزمانها، لا تختلف عن أي «غوانتنامو» أو «الباستيل» أو «أبوغريب» أو «أبوزعبل»، في تكرار للتفنن في مراكز حجز كرامة الإنسان وقيمته قبل حجزه.
لم تنشأ الكتابة لتزيد ظلام وعمى الناس. نشأت منذ فجر الوعي الأول لتنقل الإنسان من حال ظلمته وغفلته إلى حال تنويره ووعيه وإدراكه.
ولم تنشأ الكتابة ليكرس أصحابها سلطاتهم وجاههم وحظوتهم ومنافعهم وحضورهم ومكاسبهم على حساب حرمان شرائح كبرى من مجتمعاتها من أدنى حقوقها، وما يدل على إنسانيتها وحضورها.
لا مشكلة لدينا ولدى غيرنا من البشر الذين يكتبون ليحيوا، بالاعتبارات والظروف التي هم أعلم بتفاصيلها؛ وقد يمرر إلينا شيء منها. ذلك شأنهم؛ ما داموا يكتبون ليحيوا من دون أن يصادر حرصهم على تلك الحياة، خفقة قلب من أعمار الآخرين.
ولا معنى لمن يكتب من دون أن نحس أنه كتب سطراً أو مرَّ أساساً في ذاكرتنا؛ ذلك صنف من ضمن حركة التوازن في وعي الحياة لانتخاب ما ينفع الناس، وترك ما لا يضيف إلى قيمتهم.
مشكلتنا مع الذي يكتب ليحيا على حساب الآخرين؛ مستثمراً آلامهم وعذاباتهم لتحقيق ما عجز عن تحقيقه، والبشر من حوله يمارسون حياتهم الطبيعية؛ باستتباب الحقوق والوعي والانتباه في ذروته للواجبات.
وتظل تحترم وتقدّر ذلك الذي يكتب ليحيا ويحيا معه الآخرون - في توازن يراه، وكثير منا يراه - يذهب في اتجاه المعايشة اليومية لتفاصيل الناس وقضاياهم، واستلهامها توظيفاً وصوغاً وتقديماً، في توازن لا يمس العلاقة مع الناس فحسب؛ بل يطال أيضاً التنبيه على مواطن ومواقع الخلل؛ ما يجنب «الرعاة» مشكلات وكوارث وعديداً من القلاقل.
قليلون هم في هذا الزمن، في الأمكنة التي نحياها ونتحرك فيها باشتراطات معقدة، الذين يكتبون ولا يهمهم أن يحيوا - بالمعنى المادي - مادام الذي يكتبونه سيسهم في حيوات كثيرين. سيسهم فيها من حيث تحسين أوضاعهم وظروفهم وحقوقهم وقيمتهم كبشر، ومن حيث تأثير تلك الكتابة البالغ في تراكم وعيهم وامتداده، وما ينتج عنه من خيارات تصنع واقعاً جديداً ومعنى أجدّ لهم يضعهم في المقدمة من الفعل والتأثير والإسهام في إدارة دفة الحياة وتوجيهها؛ بل يتجاوز ذلك لامتداد تأثيرهم إلى ما بعد محيطهم ومكانهم بمراحل، بروعة الموقف ونصاعة النموذج الذي يقدمونه.
وتظل الكتابة أداة من أدوات استتباب الوعي والخيار وتراكمهما؛ حين يقف وراءها بشر تعني لهم حياة الآخرين قيمة لا تقل عن قيمتهم؛ إن لم تتقدَّم عليهم، بحرصهم على الدفاع عن قضايا الآخرين والذهاب في تذكير محيطهم والعالم بها حدَّ التوحد معها؛ كلما استشعرت تلك الكتابة خطراًَ يهدد ذلك الوعي أو محاولة تحييده ومحاصرته.
لا نريد للكتابة أن تتحول في نظرة شوفينية تبنتها - فيما يتعلق بأولوية الوجود - «سائر الجماعات الكلاسيكية الكبرى، التي رأت نفسها باعتبارها جماعة تحتل مركز الكون»، بحسب نص مؤلف «الجذور الثقافية للقومية ومنابع الوعي القومي» بندكت أندرسون.
نريد لها أن تلتفت للإنسان وهو في سلة مصير واحد. سلة رفاهيته نظراً وتقديراً، وسلة بؤسه تنديداً وفضحاً وتعرية لذلك الواقع وجحيمه
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 3306 - الأحد 25 سبتمبر 2011م الموافق 27 شوال 1432هـ
يا لروعة الكلم
شكرا لمقالك الرائع الذي يفعم الوجدان و يجعل النفس تتنفض من سباتها الاشعوري لتحس و تتاثر بمعنى الكلم. قلما من كتب و اعتبر نفسة من جوقة الادب ان يثلج الصدر كما فعلت. هنيئا للوسط انت و هنيئا لنا انت. بارك الله في موهبتك يا من اجدت استخدام القلم.
هكذا هي الحياة
صدقتي القول ايتها الفاضلة وهكذا هي الحياة دايما هنا وهناك والامس واليوم وغدا (وكل اناءا بالذي فيه ينضح)
وفقكي الله
شكرا لك
سطور من أقلام تفرش لك جنان فى هذا البلد الطيب من وناس معتدلين فى كتاباتهم محبين الوطنهم وكتابات من أخرين يسكبون الزيت على النار من كتاباتهم لترى جهنم من سطورهم
صدقت
وهناك من يكتب ايضا لكي يعمق الفجوة بين البشر في هذه الأرض الطيبة اختي العزيزة ، هناك من يحاول أن يرسخ مفهوم الطائفية والعزلة االجتماعية والانتهاك ، ولكن ما دام هناك منم هو مثلكم أنتم يا كتاب الوسط لابد وأن نرى اللحمة الوطنية في اجلى حالاتها ، انت، والدكتور ، والسيد قاسم ، وحيدر ومريم وجعفر وهاني ومحمد ومريم جميعكم عنوان امن لهذه البلاد
سلمت اقلامكم وادامكم الله ذخرا للوطن
شكرا للوسط ولك
وها أنت يا صدسقة تكتبين لكي تعمقي معنى الانسانية ، وتصفين معاناتها ، شكرا لهذا القلم الذي يتحفنا بروعته وجماله واهتمامه بالآخرين
عرفناك سيدة ناضجة مكتظة بمشاعر حبها للكون والبشرية ، وها نحن نعرفك قلم أنضج وأعقل مهتم لكل هذا الكون في روعته
شكرا لك وشكرا لهذه الصحيفة التي عرفتنا اليك