صراع في الواقعية في الأدب، وإهمال وغفلة في واقعية ما يحدث في هذه الأوطان. اقتتال في طروحات ما بعد الحداثة، ومجتمعاتنا بالكاد تزحف زحفاً لاستيعاب ما يصدر إليها. شتائم تنال الانطباعية، وتمترس وتخندق وانحياز لما بعد السوريالية؛ فيما المشاهد والوقائع على الأرض تتجاوز ذلك بكثير. لن ترى الواقعية. وستتمثل لك صور لما بعد السوريالية بمراحل.
تشفق أحياناً على الذين ارتبطوا حديثاً، وعلى وشك الدخول في مشروع تأسيس أسرة. تشفق عليهم لأنهم وقود بحجم هذا الموازييك العبثي وغير المسئول. موزاييك تركهم في طوابير طويلة من الاستجداء لمصادر أرزاقهم، وبمقابل. لا ينتظرون «شرهة» تصلهم، أو منحة أو هبة. يحفظون خريطة عنائهم جيداً، والطرق المؤدية إليه. يرتبكون أمام الفلس الحرام، حرصاً على طهارة عرق أطفالهم وهم يلهون ويعدون في البيت أو في الحارات غير المسفلتة والخاضعة لكل تقارير الشفافية ومكافحة التمييز والفساد!
تحاول أن تفطن هذا العبث والدهاء من حولك. لا تحتاج إلى امتحان يحدد جنس ذكائك ومؤشره ومقياسه. كل شيء برسم الفضح والعلن؛ وإن جيشت كتائب من الستر والمواراة. لا شيء في هذا العالم بمنأى عن الفضح. فضح كل تجاوز وسرقة وانتهاك ولعب بمقدّرات القيم والكرامات والأخلاق. وكل مكبوت سيجد طريقه إلى الصرخة والعلن. وكل حذر سيحطم توهمات الكلفة، في عالم يمارس تجاوزاته وانتهاكاته كما يمارس فعل الإنجاب!
تفطن كل ذلك وتتجاوزه بمراحل؛ ولكنك تتوهم - حلماً - أن انتظارك يتيح حيز مراجعة وحيز تفكير وحيز إعادة نظر في أولويات هي بعيدة كل البعد عن الأولويات. أولويات ضمن ممارسة محسوبيات، وضمن فساد وعلاقات لها أول وليس لها آخر.
كل صراع على الزائل، لا حب فيه، وكل خلاف على المؤقت، يكشف الحضور المؤقت لأطرافه. وكل وطن يترك رعاياه في مهب الجهات والمنافي لا حصانة فيه ولا يستحق صفة الوطن، ولا صفة يمكن أن تليق به. وكل فوضى تحاول إقناع البهائم بنظامها ستسقط أمام أول اختلاف على الغنائم والخراج. وكل «صمود» فئوي، هو انهزام قبل أن تبدأ المواجهة، وكل «بطولة» تباغت الخلق وتغدر بهم، هي في الذروة من الخسة والنذالة والجبن والانهزام في الأخلاق، وكل «خير» فئوي هو شر يمس المجموع البشري، من البرهامة في البحرين، إلى سيدني في أستراليا.
أرهقنا التأمل في الكوارث.أرهقتنا الصراعات على الأجزاء والأطراف.أرهقتنا التكالب على العظم والسراب والذهاب إلى العدم. أرهقنا هذا الغل الذي يذهب إلى تصاعد مؤشراته.أرهقتنا ندرة الكبرياء والكرامة والحس والضمير. أرهقنا منظر تسول كثيرين لقيمتهم؛ فيما قيمتهم معتمدة ومختومة من خالقها وصانعها؛ ذهاباً في تحريف القيمة، وتفريغ الهدف، وتعرية المرام.
أرهقننا الطرق المرسومة لنا وهي محفوفة بالألغام والحفر والشراك. أرهقنا الحياد البليد والانحياز الأكثر بلادة.
كل هذا الاصطراع والاقتتال والزحف والشتائم والتمترس والتخندق والانحياز والحياد؛ لن يؤدي بنا إلى استرداد قيمة أي منا؛ بل على العكس، إنه يعمد إلى تعميق وتغييب تلك القيمة ومواراتها، وزجها زجاً في العدم والمجهول.
يدرك بعضنا الفارق بين أن تحيا كبهيمة، وأن تحيا كإنسان. ذلك الإدراك يجنبك كل تلك القائمة الطويلة التي وردت في بداية هذا المقال. وفوق هذا وذاك، يجنبك احتقارك نفسك أمام امتحان شراء، ويجنبك الاستهانة بها أمام أية محاولة لإدخالك في مزاد، سواء اتضحت فيه الخيارات أم لم تتضح. دخولك في أي مزاد مفتعل لن تخرج منه رابحاً، وحين تخرج، عليك أن تتحسس روحك قبل أن تتحسس أطرافك وما أنفقت وبذلت، خيبة واستسلاماً وتواطؤاً.
فقط يحتاج كل منا إلى أن يكون وفياً للروح الجمعية فيه، قبل أن يكون وفياً لروحه المفردة.
لا أحد يتمنى لأحد أن يرمم روحه - أتحدث عن الأصحاء، وليس المرضى والموتورين - بل على العكس، كلما تعافت الأرواح في المكان الواحد والزمان الواحد، كلما دفع الاثنان (المكان والزمان) وأطرافهما إلى أن يلتفتوا إلى ما يصلح ويرفه شئونهم، ويبعدهم عن المنغصات والمهيجات والتوترات، وفي النهاية، لا يصلح الحياة إلا التوافق على قيم وأخلاق ومثل ترفدها بأسباب تماسكها وبقائها.
كما أن علينا أن نتذكر، أن الأرواح وحدها التي ترفرف ولها اللامحدود من الأجنحة، أما الحديد من تلك الأرواح فمكانه أدنى الأرض وأدنى القيمة والأدنى من المعنى والحضور.
قيل للعجاج: إنك لا تحسن الهجاء، فقال: إن لنا أحلاماً تمنعنا من أن نَظلم، وأحساباً تمنعنا من أن نُظلم، وهل رأيتم بانياً لا يحسن الهدم؟
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3306 - الأحد 25 سبتمبر 2011م الموافق 27 شوال 1432هـ
رائع
اشعر اني أصل معك حد الارتواء فلا اكتفي عجيب انت ايه التهر كيف بهذه الابداعات الخلاقة تعم بهذه الاقلام التي تجعل من هاماتنا انتصابا
لا تكتب شعرا واكتب مقالات
رائع استاذ جعفر هذا الجمال في القلم ، شكرا على حسن اختيارك للكلمات ولكن أتمنى أن تبقى هكذا من دون أن تنشر نصوص لأن نصوصك وشعرك غير مفهوم وكلما كتبت مقالا زدنا اعجابا بك وكلما كتبت شعرا زدنا نفورا منك
شكرا لأنك سيد المقالة وسيد الاعمدة التي تضج بالصدق