العدد 3301 - الثلثاء 20 سبتمبر 2011م الموافق 22 شوال 1432هـ

ثقافة المطالبة بالحقوق

منصور القطري comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

تذكر كتب التاريخ الموقف المشهور الذي درسناه في مراحل التعليم الأولى من أن الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز قد دخلت عليه في أول خلافته وفود من المهنئين، وكان من بينهم وفد من الحجازيين يتقدمهم غلام صغير لم يبلغ سنه إحدى عشرة سنة؟ فقال له عمر: ارجع أنت وليتقدم من هو أسن منك! فقال الغلام: أيد الله أمير المؤمنين، المرء بأصغريه قلبه ولسانه، فإذا منح الله العبد لساناً لافظاً وقلبا حافظاً فقد استحق الكلام، ولو أن الأمر يا أمير المؤمنين بالسن لكان في الأمة من هو أحق منك بمجلسك هذا.

وجاء في كتاب «الأكم في الأمثال والحكم» أن امرأة مرت في يوم ريح بقوم من بني نمير فأخذوا ينظرون إليها ويتواصفونها (بمعنى التحرش)، فقال رجل منهم: إنها لرشحاء (أي قليلة لحم العجز والفخذين)، فقالت: قبحكم الله يا بني نمير، ما امتثلتم واحدة من اثنتين: لا قول الله تعالى حيث يقول «قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم» (النور: 30)، ولا قول جرير:

فغض الطرف إنك من نمير

فلا كعب بلغت ولا كلابا

فأفحموا بذلك وذهبوا.

في الحادثتين السابقتين يمكننا تلمس روح الشجاعة الأدبية التي تغلغلت في الممارسات اليومية للمسلمين على مستوى الشارع وفي البيوت وفي المواقع الرسمية وفي الصداقات والعلاقات الفردية، ولا شك أن في تراثنا الإسلامي زخم كبير من القصص والمواقف الدالة على القيم الحاكمة في انبعاث أمثال تلك السلوكيات التي يعبر عنها باللغة التربوية المعاصرة (توكيد الذات ـ Assertive person) وهو مصطلح يشير إلى قدرة الفرد في التعبير الملائم (لفظاً وسلوكاً) عن مشاعره وأفكاره وآرائه تجاه الأشخاص والمواقف من حوله، والمطالبة بحقوقه (التي يستحقها) من دون ظلم أو عدوان.

والحقيقة أن هناك معادلة بسيطة تحكم فكرة «السلوك التوكيدي»، فالشخص المؤكد لذاته يتمتع بصفات؛ فهو وسط لا يقبل الإذعان للآخرين، ولا يقوم بالتسلط عليهم وظلمهم، وهو متوافق في سلوكه الظاهر مع مشاعره وأفكاره الداخلية، ويستطيع الحصول على حقوقه وكذلك الاحترام اللائق به. وهذه الوسطية عبر عنها الإمام زين العابدين علي بن الحسين بقوله المعروف «اللهم لا تجعلني ظالماً ولا مظلوماً»، فالشخصية التوكيدية ليست سلبية passive person بمعنى أن تقبل الضيم وتتنازل عن حقوقها، وفي الوقت نفسه هي ليست عدوانية aggressive person، أي تتعدى على الآخرين وتنتزع حقوقها بالقوة والعنف والوسائل غير المشروعة قانونا.

والحقيقة إننا إذا طالعنا أدبيات «السلوك التوكيدي» فسنرصد أن هذه الأدبيات قد تخطت في الثقافة الغربية أن تكون مجرد مجموعة من الإجراءات السلوكية للتعامل مع بعض المشكلات النفسية، ولكنها أصبحت فلسفة حياة تهدف إلى تعميق احترام الذات وجعل الفرد أكثر ثقة بذاته وبالقيم الحقوقية الناشطة في حركته الاجتماعية. ولعل فلسفة «جون ديوي» المرتكزة أساساً على النظرية «البرغماتية» (pragmatism)، وتعرف أيضا باسم «مذهب الذرائع»، ستكون لنا وقفة فاحصة لهذا ولعلاقتها بالنموذج الأميركي المعاصر.

هذه الفلسفة هيأت الغرب منذ حقبة الستينات إلى ظهور توجهات فكرية ذات استجابات توكيدية تتمثل في التعبير المنفتح عن الرغبات والمعتقدات والتدريب على مواجهة أعباء الحياة بصورة مستقلة وتعزيز ممارسات وأساليب للتنشئة الأسرية تشجع على «التوكيد»، كل ذلك أفرز على المستوى السياسي وبطريق غير مباشر فكرة المناداة بحرية التعبير عن الآراء والانتخابات وتكوين المنتديات الفكرية وظهور جماعات الضغط والتجمعات المهنية، كما فسح المجال على المستوى الاجتماعي إلى انتشار الجمعيات الأهلية والتطوعية بحيث تعاظم عند هؤلاء الناشطين مستوى «التوكيد»، فأعلنوا عن مواقفهم والمطالبة بحقوقهم، لذلك كان المشروع التربوي الرسمي والأسري هو الأساس والبنية التحتية في حركية مفاصل الحياة.

ولعله من المهم في هذا السياق أن نبحث في تراثنا الإسلامي عن المضامين الحقوقية ونستذكر هنا «رسالة الحقوق» للإمام علي بن الحسين (زين العابدين) وهي خمسون حقاً؛ منها: حق الله، وحق النفس، وحق اللسان، وحق الرعية بالعلم، وحقها بالسلطان، وحق الأم والأب، وحق الناس، وحق الجليس، وحق الجار، وحق أهل الذمة، وحق المشاهدة والنصيحة، وحق الناصح، وحق الكبير، وحق الصغير. وهي تشكل قاعدة غنية لفقهائنا وعلمائنا لتبيان حقوق الفرد وحقوق الجماعة، ومن تلك تنبع دولة القانون المبنية على العدل والإنصاف.


بين لوكربي ومخيم مرج الزهور

بعيداً عن عدالة أو عدم عدالة الحكم الذي صدر في حادثة سقوط طائرة لوكربي، وتعاطفنا مع ليبيا كدولة عربية (وليس النظام الليبي)، إلا أن هناك مشهداً جديراً بالتأمل، وهو يتصل بذلك التكتل الأسري لضحايا الحادثة في أميركا، حيث أقاموا المحامين وتابعوا القضية وتواصلوا مع بعضهم بعضاً لممارسة الضغوط على السلطة السياسية حتى وصلت قضيتهم إلى «مجلس الأمن»، وأخيراً كسبوا القضية.

الدرس المستفاد هنا أن مواقف الأهالي تجاه أية حادثة في المجتمعات الغربية لا يشبه التكتلات الأسرية في المجتمعات الشرقية، التي تجتمع من أجل ثقافة الطعام، فيكون التلاحم العائلي شكلياً ساذجاً يعكس روح عصر ما قبل الدولة، والسؤال: ماذا لو أن حادثة لوكربي وقعت في أحد المجتمعات الشرقية؟ كيف سيتصرف الأهالي؟

نعم هناك إشكالية تتصل بثقافة المطالبة بالحقوق، فهي في الغرب متجذرة في القاعدة، أي في البيت والشارع والمدرسة، وتتحرك ضمن الثورة الحقوقية التي يعيشها المجتمع الغربي، وظاهرة «السلوك ألتوكيدي» إحدى مفردات تلك الحركة الحقوقية، لكنها في المجتمعات الشرقية منكمشة نخبوية تمارس في رأس الهرم الاجتماعي، بمعنى أن المطالب والحقوق من اختصاص النخبة فقط!

ولعل حادثة مخيم «مرج الزهور» أفضل مثال على السلوك التوكيدي الذي مارسته النخبة بشكل ناجح، فقد احتضن جنوب لبنان العام 1992م بين جنباته (415) فلسطينياً تم إبعادهم من قبل إسرائيل، فاستطاعت تلك الكوكبة في منطقة (نائية) من لفت انتباه الرأي العام الدولي، وذلك بفضل سلوكهم التوكيدي وقدرتهم التنظيمية العالية من تحقيق انتصار يضاف إلى رصيد تجاربنا التاريخية المفعمة بالإباء والثقة بالنفس والكرامة الإنسانية.

ولعلنا في هذا الهامش بحاجة إلى تذكر قول آينشتاين: «إن كشف الحقيقة مرّة واحدة لا يكفي»، فالحقيقة تشبه تمثال الرخام المنصوب في صحراء تضرب فيها عواصف الرمل، وهو مهدد بالاختفاء في كل لحظة، والأيدي الماهرة هي التي تنفض عنه الرمال باستمرار، وهي التي تحافظ على لمعانه تحت ضوء الشمس

إقرأ أيضا لـ "منصور القطري"

العدد 3301 - الثلثاء 20 سبتمبر 2011م الموافق 22 شوال 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 3:54 ص

      مقال هادف

      شكر للكاتب المحترم على اللفتة الكريمة في كيفية طرح معالجة القضايا بشكل توكيدي يسرع عملية الاجابة!!!.

اقرأ ايضاً