العدد 3300 - الإثنين 19 سبتمبر 2011م الموافق 21 شوال 1432هـ

زبد القـُدور

محمد حميد السلمان comments [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

عندما كنت صغيراً دفعني حب المعرفة لمشاهدة والدتي وهي تعد أنواع الطعام، لأن ذلك الإعداد يعتمد على الابتكار والخلق من جديد لعدة مكونات طبيعية في البيئة. ومنها ومن والدي تعلمت أهمية المزاج والنـَفس في الطبخ. وغالباً ما كان يشدني في المطبخ رؤية قدور طبخ الرز الأبيض وأنا أرى والدتي تزيح بقايا فقاعات الماء المختلطة نتاج ما يفرزه الرز على سطح الماء المغلي أو ما يمكن تسميته باللهجة المحلية «زبد فوح العيش». فدفعني الفضول لسؤالها: لماذا تزيحين هذا الزبد من على وجه القدر وترمينه في المغسلة أو مع الأوساخ. فقالت: يا عزيزي، هذا الزبد هو بقايا فوح الرز وهو لا ينفع في شيء، بالإضافة إلى انه يسبب اتساخ القدر من الخارج إذا فاض عن حده فيطفئ النار تحت القدر ويسبب لي مشكلة. ثم إن الأهم في عملية الغلي هو حبات الرز نفسه بعد أن تنضج وتصبح لذيذة للأكل وليس الزبد.

وازددت قراءة وعلماً بعد أن صرت شاباً وعلمت بأن زبد القدر يسمى في اللغة بـ «طفاحة القدر» أي كل ما علا القدر. وأن «الزبد» هو خبث الغليان ومنه زبد القدر عند غليانه، وزبد السيل. وفي قواميس اللغة أن معنى أجفأت القدر بزبدها، أي إذا ألقت زبدها خارجها. وانه حتى المعادن والفلزات المذابة في القدر إذا أوقدت عليها النار، تذاب ويعلو عليها الخبث، فالغاية من الإذابة هو فصل المعادن والفلزات النفيسة عن خبثها وزبدها.

وتيقنت من يومها، من أن الحق كالذهب والفضة والمعادن النفيسة والباطل كخبثها وزبدها الطافح. فالباطل يطفو ويعلو وينتفخ ويبدو رابياً طافياً ولكنه ما يلبث أن يذهب جفاء مطروحاً لا حقيقة له ولا تماسك فيه والحق يظل هادئاً، ساكناً، وربما يحسبه بعضهم أنه قد انزوى أو ضاع أو مات ولكنه هو الباقي في الأرض كالماء المحيي، والمعدن النقي الذي ينفع الناس. فالحق باق طالما وراءه أهل الحق.

ذكرتني حكاية الزبد هذا في زمن الوجع الذي نعيشه بأحد الثوريين المحليين القدامى - ومعه كُثر للأسف - من الذين تحولوا بمقدار 180 درجة دفعة واحدة أخيرا. كتب العام 1992 عن بعض المتساقطين والمتسلقين على دماء الآخرين بعد فشل غزو طاغية العراق السابق للكويت، «أولئك الذين لن يغفروا لأنفسهم لحظة الهزاء بالحياة والمشاعر حينما استغنوا عن المسئولية الإنسانية والحضارية مقابل علبة تونة». وكثيراً ما كان يتحدث عن «الأخلاق الثورية والقيم الاجتماعية الأصلية» في كتاباته. لذا، لا أدري لماذا بقية ثوريي أيام زمن الكلمة الطيبة بحق، الذين كنا نحترم ما يقولونه، بقوا صامتين حتى الآن رغم الزلزال الذي هز الأرض من تحت أقدامهم، بل وبقي بعضهم متوارين خلف أبواب مليئة بكراتين دولارات زمن النفط؟ ولم يتعلموا حرفاً واحداً مما قاله لهم المناضل الراحل عبدالرحمن النعيمي الذي لم يؤمن بالزبد أبداً. أين ذهبت تلك الشعارات الوطنية الكلاسيكية التي كانوا يرددونها؟ فهل كان ذلك بلا وعي، وهذا مستبعد، وإن كان بوعي فأين ذهب تاريخهم النضالي (بين هلالين) الذي طالما تشدقوا به في مجالسهم؟ ألم يتعرفوا حتى اللحظة على ما يجري على الأرض أمامهم ومن خلفهم دون التحيز لأي طرف إن كان هذا ما يزعجهم؟ ألم يتبينوا الخيط الأبيض من الأسود بعد وقد انبلج الصبح عنهما على رُبى السواحل؟

حسناً، إذن ليقرأوا هذه الآية الكريمة ليزدادوا علماً هم وغيرهم. قال تعالي في محكم كتابه الكريم:«أنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فسَالتْ أوْدِيَةٌ بقَدَرهَا فَاحْتمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رابيًا وَمِما يُوقِدُونَ عَليْهِ فِي النَّار ابْتِغَاءَ حِليَةٍ أوْ مَتاع زَبَدٌ مِثلهُ، كذلِكَ يَضْربُ اللهُ الحَقَّ وَالبَاطِلَ فَأمَّا الزَّبَدُ فيَذهَبُ جُفاءً وَأمَّا مَا يَنفعُ الناسَ فيَمْكثُ فِي الأرْض كذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأمْثالَ» (الرعد: 17).

لأن هذه الآية ببساطة تضرب مثلاً واقعياً طبيعياً للحق والباطل، للدعوة الباقية والدعوة الزائلة مع الريح، وللخير الهادئ والشر المنتفخ. هذه الآية تدلنا بوضوح جلي لا يحتاج لفهم مقعر ومغرق في الفلسفة أوللهجات اللف والدوران وتزييف الحقائق، عن عدم أهمية الزبد الذي يطفو على سطح سيل ماء المطر أو ذاك الزبد الذي يطفو من القدور بعد أن تغلي بالماء وتسخن الأحداث ويغلي الحق ليطعم الناس الذين يعرفونه، ويطفو الباطل ليكشف الناس الذين تعلقوا به. وأظن كل من يعرف اللغة العربية جيداً وهو من طين هذه الأرض يعي أهمية أن يكون من صلب الماء الخير الهادئ في جريانه أو أن يكون من الزبد والشر المنتفخ الذي سرعان ما سيذهب جفاءً وخصوصاً مع انبلاج الصبح، أليس الصبح بقريب؟ حينذاك يتطاير الزبد بلمح البصر، وربك على كل شيء قدير.

وأما بعد، فكلما أدخل المطبخ منذ تلك اللحظة، أتذكر كيف اتخذت قراراي بألا أكون «زبد القـُدور»

إقرأ أيضا لـ "محمد حميد السلمان"

العدد 3300 - الإثنين 19 سبتمبر 2011م الموافق 21 شوال 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 10 | 2:30 م

      عنوان جميل

      العنوان شدني الى قراءة المقال والموضوع أجمل
      فعلاً كلام رائع ومنطقي , أبقى الله الوسط وكتابها المتميزين

    • زائر 5 | 2:25 ص

      السهل الممتنع

      شكر للكاتب المحترم لوصفه المبدع في كل يقال في حق الوطن الجريح من أباطيل زائفه!!!!.

    • زائر 4 | 2:10 ص

      اصيل

      نعم هذامانؤمن به يااستاذنا الأصيل ،الزبد يذهب وسيبقا ماينفع الناس.

    • زائر 3 | 12:56 ص

      رائع انت يا محمد

      منذ مدة لم التقيك ولم اقرأ لك .. لكنك من القلائل الذين لا يتعب المرء في تتبعهم ومعرفة مواقعهم .. هكذا كنت وهكذا ستبقى .. في الموقع الصحيح حيث ينتظر ابناء شعبك وابناء امتك جميعاً فجراً جديداً .. يحمل في طياته الخبز الكريم والحرية الحقة .. لك كل التحايا والمحبة .. محمد حسن العرادي

    • زائر 1 | 12:47 ص

      دعاء

      حفظك الله وهداك وثبت خطاك وجعلك ممن يدورون مع الحق حيثما دار.

اقرأ ايضاً