العدد 3299 - الأحد 18 سبتمبر 2011م الموافق 20 شوال 1432هـ

يحتضر الغد في تفشي الوهم

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

الوهم ألاَّ يصلك شيء من حركة ما حولك تعاينه وتلمسه وتتحسسه وتتفاعل معه سلباً أو إيجاباً.

لا تذكر الوهم؛ إنه يحيا حيث تكون مستغرقاً في ضجرك وبعدك. يخفض صوته توهماً؛ كي لا يشعرنَّ أحداً بوجوده. ولن يلحظ أحد ذلك. الوهم يأخذ بكل ملكاتك ومواهبك وحساسيتك ومناطق استشعارك إلى غياب باسم النزهة. لا نزهة في الأمر. إنه الدفع بك إلى مزيد من الانفصال عن معناك وجدواك ووجودك وقيمتك.

وتجَّار الوهم على رؤوس أصابعهم يسيرون؛ كي لا يوقظوا أحداً. لا أحد يشعر بالموتى؛ ثم إنَّ الموتى لا رؤوس لهم كي تكون لإقدامهم رؤوساً.

يصرخ: الوطن يحتضر. لم يحتضر الوطن إلا من فيالق الوهم! ومثلما تسهم النار في التبكير بتجاعيد الحدَّادين، يحدث ذلك للمستضيئين والمستنيرين بأوهامهم كذلك. وثمة باعة جائلون للوهم. باتت الغابات اليوم واقع العالم. المدن وهمه.

ثم إن كل ضروري مصطنع وهم. كل مواجهة لمأزق حقيقة.

وثمة مستثمرون في الوهم. سماسرة الخطاب الموجه الذي ينزع إلى الاستلاب وإدخال كل شيء في تركته حتى البشر صورة من أجلى الصور.

بين البشر اليوم، من يجد نفسه عبئاً على الحياة، يبدأ بلعن سواه، وإن لم يصخ المختلفون معه السمع، لن يتردد في لعن المتفقين معه!!! لا أتحدث هنا عن كوميديا سوداء؛ فكل ما حولنا اليوم بات يتجاوز بمراحل تلك الكوميديا. إنه الوهم ولا شيء سواه. وهم الذين لا معنى لهم بتوهُّم أنَّهم مصدر الحقيقة والحق والمعاينة، وأنَّهم شرق الله وغربه وشماله، وينأون بأنفسهم عن الجنوب؛ لأنَّه على الخريطة والأرض، مصدر قلاقل وفقر وحروب وانقلابات وكوارث طبيعية ورفض إنساني في كثير من الأحيان بفعل التغييب والتهميش.

ما يحكم سياسات العالم، وما يصدر عن تلك السياسات من نقائض ونقائص وارتدادات؛ ليس على مستوى انحسار غنائم وحقوق المجتمعات البشرية الخاضعة لسطوة الوهم؛ بل في الانحسار الذي يطال الوعي البشري اليوم، في ظل تعميم مخيف ومرعب لوهم الإمبراطوريات الديمقراطية الحديثة، وقدرتها الخارقة على إخراج مجتمعات من كهوف المصادرات والقمع إلى «بيكاديللي» أممي!

يبذل السياسيون المتحكمون في رسم خطط ومصير ومستقبل كثير من الشعوب التي وجدت نفسها تحت الوصاية من قبل عدد من المتهوِّرين والانتحاريين، جهودا لإقناع تلك الشعوب أن الطرقات المزدحمة ليست كذلك في واقع الأمر؛ وإنَّما السبب أن الشعوب لا تنسق فيما بينها أوقات «صياعتها» و«صرْمحتها» خارج البيت للتسوُّق أو العلاج أو الترفيه، وتبذل جهدا لإقناع تلك الشعوب بأن حجز قبر جماعي لها والدخول إليه أوفر لصاحبه وللدولة وللبيئة ولحقوق الإنسان ولنشرة الساعة الثامنة التي لا تقول شيئاً، ولتنشيط القطاع السياحي أيضا!!! وتبذل جهوداً مضاعفة لإقناع تلك الشعوب بأنَّ المصاعد الفارغة في الهيئات والمؤسسات الحكومية أو تلك التي لا تصعد أساساً، فرصة للتخفيف من شحم العظم! لأنه لا لحم أساساً، عبر الصعود الذي لا صعود فيه، وعبر النزول الذي هو بمثابة خريطة طريق وخريطة جينات في الوقت نفسه، وعد عتبات السلالم في أوقات الفراغ.

وحتى المدن الفارغة التي تتم تعبئتها بالمهاجرين الجدد، والذين سيصبحون مواطنين بعد زمن لن يطول - لن يطول كثيراً - يعد إسهاماً وطنياً في تجميلها بالشقر والحمر بدل تلغيمها وتلطيخها بالسكان الأصليين أصحاب السحنة السمراء وحنطية اللون التي لا تصلح لملصق إعلاني لمدينة تستنفر كل مواهبها لإبراز وجهها السياحي الكوني العالمي وما بعد العالمي. لمدينة تحترم نفسها وذوقها وتعاطيها مع الألوان وفلسفتها والعائد الذي سيأتي من خلال كل ذلك.

فقط هو وهم استغفال أمم، واللعب على نغمة المصالح، ولتذهب بعد ذلك مصائر ومصالح الذين لا سند ولا واسطات ولا ظهر لهم إلى الجحيم.

ولم تعد النبوءة قبل عشرات العقود محل نظر اليوم؛ لأنها تبدَّدت بالواقع الجديد الذي فرضته السياسة الراهنة ومراهقو ما بعد الوهم.

لا رؤية ولا حكمة ولا دهشة في فعل وقول وصنيع الوهم. هل للوهم رؤية وحكمة ودهشة وفعل وقول وصنيع أساساً؟

الوهم لا ينتج عنه أي من ذلك. لا ينتج عنه إلا المزيد من تعميق الفجوة بين الذين يملكون كل شيء والذين لا يملكون شيئاً، والذين يأمرون والذين يأتمرون، والذين هم في مديات من العراء، والذين يحتلون السقوف والمشارف وكل شاهق على الأرض.

ومثلما يعاني هذا العالم من أزمة قلب حر وجريء ولافت للتجاوزات - كما أشرت في كتابة سابقة - التي يستطيع حصرها والإحاطة بها، ومن ثم محاولة إرجاع النصاب المنفي إلى حيث ينتمي، يعاني هذا العالم في الوقت نفسه، وبشكل متلازم ومتساوق مع فائض وهم يكاد يكون هو العلامة الفارقة في عدم حركته، وما ينتج عن تلك العدمية في الحركة من شلل وتراجع وارتداد.

هو ذاته الوهن الذي ظل غامراً وحاضراً ومتغلغلاً في كل مفاصل الحياة العربية بالنتائج المعاينة على الأرض وبالتخلف القابل المصمم للتمدد والتوسع في شبكاته، ولن يلوم أحد حكيم السخرية في بعد فطرتها النقية، محمد الماغوط، حين يكتب ذات وهم متفش: «الكل يقلع وأنا مازلت في المطار»!

كأنَّ كل غد يحتضر بتفشي الوهم. كأن لا مستقبل لأمة بايعت الوهم نبياً لإخراجها من الظلمات إلى مزيد من الظلمات

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3299 - الأحد 18 سبتمبر 2011م الموافق 20 شوال 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 9:27 ص

      للعلم!!!!

      عندما كنت في مطار 2x2 كثيرا ما كنت أرغب في اعادة قراءة الهبوط الى الاعلى......و هو ما فعلته فورا بعدما غادرت 2x2 ووصلت شبه معاق الى أرض (الأمان) لاكتشف أنني لم أكن أقرأ سوى الصعود الى الأسفل .....كل احترامي لابي محمد

    • زائر 4 | 9:16 ص

      وأين هي ؟؟؟؟؟؟؟؟!!!!!!

      أبا محمد.....أنا المفروض زائر 1(1) بالاول بعثت للقراء التعريف العلمي للوهم...لا و تفلسفت (شوي) و كتبت أنواعه باللغة الانجليزية فقط كونها لغتي الاولى(أنا بحريني أبا عن جد) !! من أجل المساهمة في زيادة الفائدة...... ومن بعد تداركت الامر وترجمت التعريفات الى العربية!!!!! وللأسف لم تنشروا الاولى (الانجليز ية) أفاااااااااااااااا يا بو محمد......ليش عاد !! القصد نعين ونعاون ليس الا...مع شديد احترامي فلقد اشتقت لكتاباتك التي منعوها عني طويلا بعدما أقلع الكل وبقيت وحدي في مطار مساحته 2x2

    • زائر 3 | 6:59 ص

      المعذرة

      و ترجمتها كالتالي.....حب المشاهير و التشبه بهم ,,,,,العظمة,,,الغيرة ,,,,,,الاضطهاد,,,,,الوهم الجسدي ,,,,,عدم الفائدة الشخصية,,,,الاشارة,,,,,التحكم ,,,,,,,,مع كل الاحترام لك يا أبامحمد

    • زائر 2 | 5:53 ص

      القلم الثائر

      انا من المتتبعين لك وتعجبني جرأتك وطريقتك وكنت الوحيد في الميدان بقلمك عندما قمعوا كل شيء وبقى قلمك متنفس للأحرار

اقرأ ايضاً