العدد 3293 - الإثنين 12 سبتمبر 2011م الموافق 14 شوال 1432هـ

الفصل الرابع من رواية: قيلولة أحد خريفي

هشام بن الشاوي comments [at] alwasatnews.com

كاتب مغربي

وجدتني وحيدًا في الشارع الخالي، أتسلى بتأمل انعكاس ظلي على الإسفلت. تلوح سيارة أجرة من بعيد. أركض في اتجاهها: « ككل اثنين، يغادر الكهول الثلاثة قراهم تحت جنح الظلام، يلتقون عند محطة «الطاكسيات» بأحد أولاد فرج. يستيقظون مبكرًا، حتى يباشروا عملهم في الورش على الساعة السابعة صباحًا». أشير للسائق بيدي، أفتح الباب، أركب من دون استشارته، ألقي التحية مشيرًا إلى وجهتي: «محطة القطار». أرنو إلى ساعة هاتفي الجوال. قريبًا من المحطة، شردت نظراتي، وحي النجد يلوح غارقًا في سباته اللذيذ، والعمارات التي انتصبت على ضفتي الشارع حجبت البيوت من الجهتين، أحدق في ساعتي: «أين وصلوا الآن؟ أي جنون هذا... إنها مجرد قصة. تبًّا لك، يا نور الدين. أنت تلاعبني... حسنًا، سنرى من سيضحك في الآخر. أتمنى أن تكون ليلتك الأولى في «البيجي» رائعة، وحتى لا نربك القراء، فلا داعي لسبق الأحداث.

تذكر جيدًا، يا صديقي عنوان الرواية: «قيلولة أحد خريفي». نحن ما زلنا في يوم الإثنين، وهذا اليوم صار في خبر كان بالنسبة إليك، حين خلدت للنوم، وطلبت مني تسلم دفة الحكي. البناؤون في طريقهم إلى الورش. تريد أن تعرف سبب القبض عليك. يبدو أنني تورطت في حبك، وهذا سيجعلني رحيمًا...». تتوقف سيارة الأجرة أمام مبنى المحطة، أواصل مشاهدة شريط سينمائي لا يراه أحد سواي، وأنا أتوجه نحو شباك التذاكر: «يتوقفون أمام «البراكة» الموصدة... يلوح على وجوههم القلق لغياب «ولد عمي». في مثل هذا الوقت ألفوا أن يكون مستيقظًا يحتسي الشاي ويدخن سيجارته الرخيصة «كازا سبور» casa sport بتلذذ»، سألني الموظف عن وجهتي، وأنا غارق في شرودي البهيج:

casa port- (محطة الدار البيضاء - الميناء).

«يتوجهون إلى الداخل لتغيير ملابسهم... يلفت انتباههم أن الخدم (المتعلمين)، الذين يسكنون في ضواحي المدينة لم يحضروا بعد، لم يتأخروا من قبل، فقد اعتادوا قطع الكيلومترات الستة بدراجاتهم الهوائية المتهالكة كل يوم، وحتى «المعلم التيباري» لم يحضر أيضًا. يقترح أحدهم أن يعملوا لوحدهم، فهم لا يحتاجون إلى خدم، مادامت أشغال النجارة المسلحة لم تنتهِ بعد. يقترح «الفرجي»- أكبرهم سنًّا- أن يعمل رفيقاه فوق السقالة، ويبقى هو تحت ليمدهما بما يحتاجان من ألواح خشبية. يخبرهما أنه سيذهب لتجهيز الشاي، يمزق صمت الصباح الندي بسعاله، وعند باب الكوخ تتعلق الكلبة بساقيه».

أسترخي في إحدى المقصورات، بعض المسافرات يتقنفذن فوق مقاعدهن، أتذكر غابريال غارسيا ماركيز و»الجميلات النائمات». أقاوم ضحكة تكاد تنفلت مني، وأنا أقول لنفسي بصوت مسموع: «صباح الخير سي نور الدين». هذه الجملة لم تكن تحية بريئة، وإنما تشف من قريب «ولد عمي»، الذي يحاول التمرد عليّ. تصرفه الأرعن قد يجعل كل الشخصيات تتمرد على الأقدار الروائية المصنوعة لها سلفًا.

«في المطبخ، تمدد أحد البنائين قرب تجويف أسمنتي مكعب، يشبه حوضًا صغيرًا تلتقي عنده قناتي الصرف الصحي، مد يده في القناة الأمامية متوغلًا أكثر في امتدادها، وحركها في عدة اتجاهات، وبحث في القناة الأخرى. ذهل الرجلان لعدم عثورهما على مطارقهما، ونادى أحدهما على الفرجي بصوت عال: «وا الفرجي، فين(1) البلوطات(2)؟ واش حولتيهم من بلاصتهم(3)؟ باش غادي نخدمو (4)؟». استغربوا أن تسرق المطارق فقط، وكل شيء مرمي هنا، ولا أحد سواهم يعرف أنهم يخبئونها هناك ليلة السبت، لأنهم يعلمون أن عبدالله لا يلازم «البراكة» ليلة السبت ونهار الأحد... عاتب أحدهم رفيقيه مشيرًا إلى أنهم لو وضعوها في «البراكة» لما تركت الكلبة أحدًا يدخل. رد الثاني بأن اللص يعرف بأن «البلوطات» غالية الثمن، وخفيفة الوزن أيضًا ولم يسرق أي شيء آخر... لو كان اللص عاديًا لسرق الحديد أو أكياس الإسمنت أو حتى الأعواد والنقالات وباقي المتاع... قد يسرق كل شيء، مادام لا أحد يوجد هنا. لكن هذا لص خبير بأوراش البناء.

جلسوا عند بوابة الورش كما المعزين، وبعد لحظات، لاحت الشمس تتسلل من خدرها الشرقي تلقي تحية الصباح على الكائنات في استحياء، وبالجوار، كان «بالوما»، حارس الورش المجاور يتمطى بجسده الضخم، ويتثاءب بصوت مقزز...».

أتثاءب، أرنو إلى أشعة الشمس تنعكس على ملامح امرأة تجلس على بعد خطوات بالصف المعاكس. ألفيتني أقارن بين جمالها وبين تلك العانس البنورية، التي ذبل فيها كل شيء. كانت تلح في طلب رقم هاتفي المحمول، بحجة أن تتصل بي. التقينا لقاء غرباء وافترقنا... فلم تصر أن نلتقي مرة أخرى، مع أن كل شيء حدث بسرعة ويسر؟.. خيل إلي أن ركاب الحافلة - يومئذ- كانوا ينظرون إلي نظرات غير بريئة. ملامحها تشبه تقاسيم نسوة بدويات أراهن في الأسواق الأسبوعية... بأجسادهن النحيلة، التي شاخت قبل الأوان، تبدو أكبر من سنها... عيناها وقحتان جدّاً، تسيلان شهوة، وفاكهة صدرها تنتصب في شموخ فاجر.

قالت : أعجبتني وأريد أن أتزوجك. قلت لها إنني عاطل عن العمل. ردت بلهجة واثقة: أجلس في البيت وأنا أعمل... لذت بالصمت، وبعد تفكير، للتخلص منها بطريقة لبقة هتفت: أخشى أن يرانا أحد...

من يتزوج امرأة وهبته جسدها في سرعة قياسية؟ بيد أن ما جعلني أضيق ذرعًا بها حديثها المتحسر عن صديقتها وصاحبها النذل الذي تخلى عنها، ووعيدها بأنها لو كانت مكانها لفعلت كذا وكذا... لذت بالصمت. قلت لنفسي : هو كان يعاملها كبغي.. مثلك تمامًا.

أتأمل المرأة التي تتحاشى نظراتي. بنظرة سريعة متلصصة على ساقها وكتفها أدركت بأنها ليست من ذلك النوع اللحيم المثير، بيد أن وجهها كان فتانًا.. جمالها مشوب بذلك الحزن النبيل.. الآسر. كانت تنشغل بتقليب أوراق قبالتها، وهي تحتمي بالمقعدين الأماميين، فلا أرى منها سوى طرفي جلبابها وسروالها وحذائها. أتساءل : لم حرمتني الحياة من حقي في السعادة؟ نظراتي لا تفارقها، وكلما تململت في جلستها رأيت عينها فقط، من بين المقعدين، حيث تعمدت أن تجلس بينهما حتى لا أرى وجهها كاملًا، ولتتفادى وقاحتي.

بنوع من الوله العذري أحدق فيها.

أحس باختلاجة في صدري...

انتشل القلم من جيب داخلي... أدون كلمات، بسرعة، على تذكرة القطار، أختلس نظرة إليها... تلتقي عيوننا. هل تتصورين أنني سأكتب رقم هاتفي مثلا؟ أختلس نظرة وأنشغل بالكتابة. أضع القصاصة في جيبي، أرنو إليها مجددًا... أمسك هاتفي الجوال، أنقر على زر الرسائل، أختار: «رسالة جديدة». بحروف لاتينية أشرع في تدوين الأفكار، التي ألهمتني إياها فاتنتي الجميلة، وأخزنها على الهاتف. لو كنت بطلًا في رواية أو فيلم سينمائي لخلعت قميصي وشرعت في الكتابة عليه، لأسرق إعجابي جميلتي، ولكن الحياة ليست رواية جميلة نقضي في صحبتها لحظات، ثم ننساها بسرعة، مثلما اعتدنا نسيان كل شيء. لا مكان للجنون الشهي في الحياة، يا نور الدين.

حين سألتني البنورية عن عملي لم أقل لها إنني كاتب، كان ردي حاسمًا وقاسيًا: «عاطل عن العمل»، فكيف أخلع قميصي لأكتب عليه؟.

انتهيت من التقاط كل حمائم الإلهام المحلقة، والجميلة مصرة على أن تتفادى نظراتي المتعبدة، وفاض قلبي بالحزن حين رأيت خاتمًا في إصبعها... لا أستطيع أن أميز إن كانت مخطوبة أو متزوجة، كل ما أعرف أنني وجدتني على أهبة البكاء، وغادرت المقعد حين اقترب القطار من المحطة. أتنهد، وفي خيالي أستعيد تفاصيل آخر مشهد كتبته: «يسأل «بالوما» «الفرجي» الذي تبدى مكلومًا: «لمَ لمْ تعملوا اليوم؟ فغمغم الكهل، وهو ينفث دخان سيجارته الرخيصة في حنق: لم يحضر أحد اليوم».

ألقي نظرة أخيرة على جميلة المقصورة. أتعذب بإصرارها على تجاهلي... حتى نظرة عابرة لا تجود علي بها، وأردد في سري: «صبّ «بالوما» بقايا عشائه في صحن الكلبة، راح يربت على رأسها في حنو بالغ، وهي تلعق المرق بفرح، وهتف: «لقد رأيت ذلك الفتى الغريب، الذي يزور عبدالله أمس... هنا».

الآن، يمكنني أن أتسكع في شوارع البيضاء، في هذا الصباح الدافئ، يا نور الدين. إني أرى أشعة الشمس تتسلل من كوى السرداب، وتصافح وجوهكم. ينادي شرطي على من سيتم ترحيلهم إلى المحكمة الابتدائية للمثول أمام وكيل الملك، فيقفون في صف أمام البوابة الثقيلة، وزوار منتصف الليل، أولئك السكارى، الذين اصطادتهم الدوريات الليلية من أمام الحانات وعلى قارعة الطريق... يخرجون من الزنزانة المجاورة، وينضمون إليكم، وأحد رجال الشرطة يناول نزلاء سطل ماء وقطعة قماش لتنظيف الدهليز... أرى على ملامحك الاستنكار، يا عزيزي نور.

سأمنحك فرصة السرد بضمير المتكلم صبيحة يوم الأربعاء، أيها الكئيب... الآن يجب أن أعود إلى حادثة سرقة فيللا سيدي بوزيد... سردنا يحتاج إلى بعض الطرائف. هل تذكر «التيباري» و»بعية»؟ من دون شك، أنت تعرف أنهما من أبطال روايتي البكر «كائنات من غبار»، وأنني جعلت «التيباري» حجر زاوية قصتي «خيط من الدخان»، ومع ذلك لن أغير اسميهما.. سأحس بالوحشة لو فعلتها. ستقول لي لبنى: لقد عدت إلى تمجيد ذاتك في الرواية مرة أخرى؛ بسببها ألغيت فصلين كاملين، وربما لن يعجبها إقحامي للعانس البنورية!

رن هاتفي الجوال، ساورني القلق، لا أحد يتصل بي من الأصدقاء في مثل هذا التوقيت. الرقم غريب: ترى من يكون؟... وبلا مقدمات، جاءني صوت أحد الأقارب متحشرجًا، مختنقًا بالدموع... تضاعف قلقي، لم يترك لي فرصة السؤال، ورماني بقذيفة: «ولد عمي مات».

---------------------------

1 : أين هي؟

2 : نوع ممتاز من المطارق يستخدمها البناؤون في النجارة المسلحة.

3 : هل حولتها من مكانها؟

4 : بماذا سنعمل؟

إقرأ أيضا لـ "هشام بن الشاوي"

العدد 3293 - الإثنين 12 سبتمبر 2011م الموافق 14 شوال 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً