يحكي أنه في عصر المأمون كان هناك شاعر اسمه العتابي قد تعود على أن يأكل الطعام أثناء سيره في أسواق بغداد. كان هذا الفعل يخالف المروءة ويخالف عادة الناس وخاصة عند الطبقة العليا من القوم. ونكر عليه أحد أصدقائه هذا الفعل القبيح قائلاً له: ويحك يا عتابي أتأكل الطعام وأنت تمشي في السوق حيث يراك الناس! فرد عليه العتابي ساخراً بقوله: وهل تسمي من حولك ناساً بما تعنيه الكلمة! فقال له: إذاً ما هم؟ فرد عليه العتابي بكل صراحة مغلفة بمرارة منهم كما يبدو: هؤلاء مجموعة من البقر وليسوا بناس... فصعق صديق العتابي لهذا الجواب ونهره بقوله: كيف تصف الناس في ديرتنا بأنهم بقر؟! فرد العتابي: ليس كل الناس ولكن الأعم منهم هم هكذا ولن أتنازل عن هذا الوصف. فطلب منه صديقه أن يثبت ذلك بالبرهان ليصدق ما يقول. فرد عليه العتابي بقوله: سأثبت لك صدق كلامي ووصفي لبعض أهل الديرة، فصعد الشاعر العتابي إلى ربوة مرتفعة ونادي في الجمع المتواجد حوله من أهل السوق: يا قوم هلموا أحدثكم عن رسول الله (ص)، فتدافع إليه الناس واجتمعوا حوله، وأقبل يحدثهم يقول: روى فلان عن فلان عن فلان أن رسول الله (ص) قال كذا وكذا... وبقي مدة من الزمن يخرج من حديث إلى آخر مستخدماً بلاغته وفصاحته وسجع الكلمات وأبيات الشعر التي يجيد نظمها وقد تعلقت به العقول والقلوب والعيون، وسيطر على المستمعين المحلقين حوله والمحملقين فيه. ثم أضاف بعضاً من أدوات التمثيل الحركي لما يقول، فإذا حرك يده يميناً تحركت رؤوسهم يميناً، وإذا أومأ برأسه يساراً التفتوا يساراً، إلى أن وصل إلى الحديث مربط الفرس وهو أن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم له حديث عجيب ومهم جداً حيث قال إن الرسول (ص) قال: «إذا بلغ لسان أحدكم أرنبة أنفه دخل الجنة». ثم صمت العتابي عن الناس المتجمهرين حوله ليرى ردة فعلهم. وفعلاً حدث ما توقعه منهم هذا الشاعر فما هي إلا لحظات وإذا بكل واحد من الناس المستمعين للرجل الواقف أمامهم يقوم بمحاولة إخراج لسانه بكل قوته وطيه للأعلى لأقصى حد حتى يصل لأرنبة أنفه عله يحصل على مقعد في الجنة هكذا بكل سهولة. فكان مشهداً مضحكاً للناس في السوق ذاك اليوم. فالتفت العتابى إلى صديقه ساخراً وقال: ألم أقل لك إنهم بقر؟
وأرجو ألا يحاول أحد منكم أن يقوم بما قام به هؤلاء الناس السذج والذين ينعقون وراء كل ناعق من دون علم أو دراية أو حتى من دون سؤال من هذا الذي يتحدث لنصدقه ونسير وراءه. ألا يمكن أن يكون في سيرنا ولهاثنا وراءه مفسدة لنا ولوطننا ومن فيه؟ ألم يستخدم هذا الشاعر وغيره من شعراء الديرة وكتابها لسانه وقلمه لجر الناس لفتنة هوجاء يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير وتأتي على الأخضر واليابس؟ ثم هل سأل أحد أؤلئك الناس من أهل الديرة لماذا لم يستخدم ذاك الرجل المتصدر لموقع الكلام والقيادة تلك الوسيلة السهلة أمامهم حتى يضمن الجنة بمعناها الأرضي أو السماوي. وما أكثر الجنان التي يفرشها اليوم من يدعون أنهم أهل سياسة ودراية أكثر من غيرهم أمام أنصارهم الذين يشبهون أهل السوق التي وقف فيها العتابي ساخراً منهم. أليس معنا اليوم مثل تلك العقول التي تصدق بأن من يلمس أرنبة أنفه بطرف لسانه يحصل على موقع مناسب في الجنة من دون حساب ولا كتاب حتى ولو كانوا من أكذب الناس على الله ورسوله ويتشحون بعباءة روحانية هي أبعد ما تكون عما يعتمل في صدورهم أو في بنوكهم من ورق لعق الدنيا بأطماعهم؟ كم من سؤال وسؤال يمكننا أن نضعه أمام أهل ديرة العتابي وأمثالها الذين صدقوا الكذب والغش والخداع الذي خرج من لسان شاعرهم وهم ربما لا يعلمون أن اللسان ما هو إلا عضلة تكمن وراءها كل معضلة إن لم نحسن استعمالها في مكانها ووقتها المناسبين. ولهذا قيل في الأثر «أصعب من علم الكلام فن الصمت»، بل وربما فات على البعض اليوم أنه حتى الأحمق إذا صمت يعد حكيماً. فلماذا كثرة الكلام المكرر من سباب وشتائم هنا وهناك؟ ألم يقرأ جُلّ هؤلاء السبابين قول ابن عبدربه الأندلسي: «اختيار الكلام أصعب من تأليفه». بل أضيف عليه وصف آخر لهذا العضو الذي يتحرك في فمهم ولا يعرفون قدره إلا في السباب فقط وليس في قول كلمة حق أو صدق من أجل الديرة وحدة الصف بها ومن أجل الحفاظ على كرامة ناسها الطيبين. الوصف يقول: اللسان عضو صغير به يكشف الأطباء عن أمراض الجسد والحكماء عن أمراض النفس. فعلاً أنصح كل قلم شحذ لسان صاحبه لهدم الجسد البحريني الأصيل الذي تمرغ عرقه بطين هذه التربة المعطاء بأن يعرض نفسه على طبيب نفسي بعد أن تنقشع هذه الغمة عن صدر هذه الأمة الرائعة، وليعرف أن نيل موقع في الجنة لن يكون أبداً بمحاولة لمس أرنبة أنفه لأنها مستحيلة إلا لأصحاب اللسان الاصطناعي فقط وهؤلاء ليسوا ببشر. إنما هي كلمة الصدق والكلمة الطيبة هي ما يوفر موطئ قدم له ربما في الجنة.
وأخيراً رحم الله من علِم بأن الأشخاص الواثقين من أنفسهم، نادراً ما يشعرون بأنهم مجبرون على الكلام. وهذه خلاصة كلام اللسان العربي الأصيل
إقرأ أيضا لـ "محمد حميد السلمان"العدد 3293 - الإثنين 12 سبتمبر 2011م الموافق 14 شوال 1432هـ
العبرة في النهاية
مثل ما سخر الشاعر من القوم سيسخر الأذكياء من هؤلاء السبابين البغيضين
من عامة الناس
نساْل الله الامان ولا يعاتب علينا.
ما قل ودل
لا فظ فوك
شكرا