لفتني خبرٌ قبل أيام من باريس. الخبر يقول إن وزير الخارجية الفرنسي ألان جوبيه أقام للبطريرك الماروني (اللبناني) بشارة الراعي (الذي كان يزور فرنسا)، عشاء عمل في الخارجية الفرنسية، وحضره عدد من المسئولين والدبلوماسيين. الوزير الفرنسي سألَ الراعي خلال المأدبة عن بديل نظام بشار الأسد في دمشق التي تشهد مظاهرات مستمرة منذ ستة أشهر.
الرَّاعي أجابَ إجابة (مسيحية) براغماتية بحتة وواضحة جدًا «بأنه مع الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولكنه يفضل أحياناً السيئ على الأسوأ، والأسوأ (من الأسد) هم الإخوان المسلمون، لأنهم يضطهدون المسيحيين»، مُعربًا عن مخاوفه ممن قد يأتي بعده. ألان جوبيه أعرب عن تفهمه لمخاوف البطريرك الماروني من الإخوان المسلمين (في سورية)، قائلاً له إن إخوان سورية بعثوا برسائل إلى فرنسا، وباريس مستعدة للتحدث معهم ولكن بحذر.
بالتأكيد، فإن مخاوف الرَّاعي نابعة من كونه مسيحيًا قبل كل شيء، أو بالأحرى ممثلاً لطائفة كبيرة منهم. ولأن المسيحيين هم أقليَّة في عموم العالم العربي، فإنه أبدى ذلك، لما تواجهه عادة الأقليات من تسلط الأكثريات، إن كان في الدولة أو في المجتمع. وربما زاد من مخاوف ما شاهده ويُشاهده من بلاء وحيف قد حَلَّ على المسيحيين في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين بعد أبريل/ نيسان من العام 2003، ومما يُشاهده الآن من غلواء إسلامية ضدهم أيضًا في مصر.
وهذه في حد ذاتها مشكلة مزدوجة ومعقدة، بات يختلط فيها الجانب الاجتماعي والديني والسياسي، وأصبح لِزامًا النظر فيها بجديّة وعُمق. فالأقليات (وبالذات المسيحية منها) في البلدان العربية باتت في مستوى معدوم من الثقة تجاه التيارات الدينية في أغلبها. وأصبحت ترى في الأنظمة العلمانية الأوليغارية ملاذاً أقل ضررًا من الأنظمة التي يتفرد فيها الإسلاميون بالحكم، أو على الأقل متنفذون فيها بقوة، وما تنتجه من مجتمع سياسي.
هنا، حديث لازم عن هذا الإشكال. فالتأصيلات التي كُتِبَت في هذا المجال (العلاقة مع المسيحيين أو أهل الكتاب) كثيرة وغزيرة وثرية أيضًا من مفكرين إسلاميين بارزين، تولوا قيادة الحركات الإسلامية السياسية. كتبَ عن ذلك حسن الترابي من السودان، ومحمد سليم العوا من مصر، وراشد الغنوشي من تونس، والحوزة الدينية في إيران، عن ضرورة النظر إلى بقية الأديان الموحِّدَة من مدخل المواطنة وليس الذميَّة، وما يفرضه ذلك من دفع الجِزيَة.
إلا أن المشكلة لا تكمن في ذلك التأصيل الفقهي والفكري، وإنما في الممارسة والواقع، لأن الحقيقة هي أن الإسلاميين عندما تنفتح أمامهم أبواب السلطة وينفتح أمامهم النفوذ، تختلط مسطرة التيارات بينهم، فيصبح الأكثر تشددًا هو الذي يقود المسيرة، وبالتالي يُطبِّق الأجندة والأيديولوجيا التي يؤمن بها دون غيره، فتضيع تلك التأصيلات المعتدلة لصالح أخرى متطرفة، فيتحمل عنوان «الإسلام الحاكِم» برمته المسئولية العملية والأخلاقية تجاه ما يجري.
وقد لا يكون الحال بذلك التوصيف، وإنما في تحوُّل الدول بعد التغيير السياسي، من دول راعية إلى دول مرعية، تكون ضعيفة البناء، ومتفسِّخة الجوانب، وبالتالي تكون أسيرة الجموح الديني المتطرف الذي يطغى على مسارها، ويحرفها نحو أوتوقراطية اجتماعية لا ترحم، رغم أن الحكم الحقيقي غير ذلك، وهو ما يجعل الأقليات تخشى التغيير حتى ولو كان باسم الديمقراطية ونحوها، وتفضل العيش تحت رحمة أنظمة أوليغارية قمعية لكنها أقل ضررًا.
لاحظوا في العراق على سبيل المثال، فالحزب الإسلامي الذي يُشكل وجهًا من وجوه الحركة الإسلامية المعتدلة هناك، والتي ذابَ بعض أفراده حتى داخل قوائم علمانية (كالقائمة العراقية)، لم يستطع كبح جماح التيارات الدينية المتطرفة التي كانت ومازالت حاضرة في محافظات الأنبار ونينوى وصلاح الدين، وبالتالي أصبح المسيحيون تحت رحمة هؤلاء، حيث لم يُبقوا لهم ولم يذروا، ولم يتبقَ منهم الآن سوى 800 ألف بعد هجراتهم القسرية المتوالية.
المسيحيون ليسوا غرباء عن هذه المنطقة، فمناطق كالعراق ومصر وسورية وفلسطين ولبنان وجنوب تركيا كانت شعوبها مسيحية بنسبة 95 في المئة قبل الفتح الإسلامي عندما كانت جزءًا أصيلاً من الحضارة السريانية. وبعد الفتح عاشوا إلى جانب المسلمين. بل إنهم أثروا الفكر العربي والإسلامي عندما انبروا إلى ترجمة علوم الحضارة اليونانية، وتشكيل جامعات عريقة كـ «نصيبين وسالسطيسفون وأورهي»، وكانوا عَوناً حتى في حركات الاستقلال التي قاومت ضد الاستعمار، وكانت جثثهم مُعلقة أثناء الثورة السورية في العام 1916م ضد جمال باشا. كما ظهر منهم أشخاص عروبيون دافعوا عن مصالح العرب كنجيب العازوري وقسطنطين زريق وأنطوان سعادة وميشيل شيحا.
ربما كانت منطلقات البطريرك الماروني بشارة الرَّاعي طائفية بحتة (بمعنى انتمائه الديني وليس شيئاً آخر) عندما قال ذلك، وعلى رغم أنه لا يُمكن إيقاف عملية التغيير السياسي في سورية لأسباب (خاصة) كالتي ذكرها البطريريك، لكن الحقيقة هي أن مسيحيي سورية الذين يصل تعدادهم إلى مليوني إنسان يجب أن يحصلوا على ضمانات حماية حقيقية (وحتى أمميّة إن تطلب الأمر) بعد أي عملية تغيير سياسي قد تجري، وخصوصًا أنهم في مناطق مهمّة في سورية، وعلى المعارضة السورية إذا ما أرادت أن تجعل من مشروعها التغييري أكثر متانة وصدقية أن تعطي هؤلاء ما يُطمئنهم لكي لا يتحولوا إلى المصير ذاته الذي آلَ إليه مسيحيو العراق
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3292 - الأحد 11 سبتمبر 2011م الموافق 13 شوال 1432هـ
استهداف الجميع
ليس فقط المسيحيين بل استهدف الصابئة والأزيديون في العراق