بعد الظهيرة، تغري الشمس الخريفية بالاسترخاء اللذيذ، والسكون يخيم على حي النجد. الأحد يوم الكسل المقدس... تتمدد فوق الرمل، تحس بدفئها يتسرب إلى مسامك، والقطة الوديعة تتمسح بساقك، كأنما تشاطرك افتقاد أنيسكما العجوز. ترنو إلى كوخ عبدالله بآجره الرمادي، تستغرب تصميمه على البقاء في «البرّاكّة» وسقف الطابق الثاني قد قارب البناؤون على الانتهاء منه، بينما بقية العسس اختاروا إحدى الغرف الدافئة بالورش، تفسر الأمر على أنه يفضل السكن في «البرّاكّات»، التي التهمت عمره... تحدق في تجاويف سدت بمزق أكياس الأسمنت وأوراق الجرائد اتقاء لشر برد ديسمبر. تتأمل السقف القصديري، الذي رميت فوقه أشياء كثيرة، أغلبها لا يصلح لأي شيء، بيد أن عبدالله يحب «القُش» مثل الجرذ، كما يقولون عنه، ويقضي سحابة نهاراته في البحث عن سقط المتاع في الجوار.
حين يطلب منهم في فترات استراحتهم مساعدته في ترتيب الكوخ، يعيدون رمي تلك الأشياء التي لا تصلح لأي شيء، متعجبين من وجودها بعد أن تخلى عنها أصحابها، لكنهم لا يندهشون عند اختفاء بعض تلك التحف صبيحة يوم اثنين، فيوقنون أنه أخذها معه إلى البادية، ويتساءلون فيما بينهم: «من يقبل أن يقله معه، وهو مثقل بكل هذا «القش»، فمن يراه من بعيد يظنه معتوهاً؟»، ويشفقون على شيخوخته التي لم يرحمها أبناؤه، ملقين عليهم اللوم. يتألمون أكثر لأنه لم يفلح في أن يتعلم المهنة ويصير بناءً ماهراً مثلهم أو فلاحاً، وأقرانه صاروا ملاك أراضٍ، لأنهم يعرفون أن من في مثل سنه تلفظه أوراش البناء، بلا رحمة... ويشيرون إلى صلة النسب، التي تربطه بالمقاول، الذي شغله مكتفياً بحراسة الورش، لأنه لن يتحمل الأعمال الشاقة... ومن قبل، كان يعمل مياوماً - نهاراً - في الورش، ويتحمل - ليلِاً - مسئولية كل شيء فيه.
اعتدت منذ أعوام أن تسمع كل من يعرفونه ينادونه بـ «ولد عمي»، وأغلب الظن أن التسمية مستوحاة من أغنية شعبية لمطربة دكالية شهيرة، وكثيراً ما تناديه مثلهم... بدل «عبدالله خالي»، كما كنت تفعل في طفولتك، على رغم كونه خال أمك. شيء ما مبهم كان يشدك إلى «ولد عمي».
تعلو شفتيك ابتسامة مغتصبة، حين تستحضره، وهو يحكي لك كيف أن خاله المقاول الراحل ضبطه يغني في الدرج، وهو جالس محتضناً الكيس، الذي كان يحمل فيه الرمل إلى الطابق العلوي: «جُوجْ بْحالي يْسيزيوْ خالي». لم يغضب الخال من غناء ابن أخته فرحاً بأن اثنين مثله سيجعلانه مفلساً.
كثيرون يتغاضون عن أخطائه الصغرى. ومن يعاشره - عن قرب - قد يتقزز من وسادته، التي بلا لون من كثرة الأوساخ، والأردية المهلهلة التي ترك فيها أصدقاؤه الفئران والجرذان ثقوباً تخلد ذكرياتهم معه، وبعد تناوله ما تبقى من عشائه البائت يرمي أوانيه جانباً ببقاياها الدسمة، برتقالية اللون، مكتفياً بصب قليل من الماء فيها، ولن يغسلها إلا ليلاً حين يحتاج إليها...
أفراد عائلتك، كانوا يستغربون لارتباطك به في حين لا أحد يحبه تقريباً، بينما تعامل باقي العائلة بفظاظة، منغمساً في عزلتك الفاخرة. تحتمي بالصمت حتى لا تفضح نفاقهم، وتظاهرهم بمحبته في حضرته. تخمن أن انعزاله في أكواخ الأوراش أفسد علاقته بكل من حوله، حتى أبنائه. ففقد احترام الجميع... الجميع يرونه مخبولاً ومعتوهاً لا يطاق، بسبب مزاجيته...
بيد أن ما يثيرك أكثر قدرته العجيبة على جعل حيوانين على رغم العداوة الفطرية بينهما يتآلفان. حين تزوره - في غير أيام الآحاد للسؤال عنه - تجده يسير نحو الخم الصغير المجاور لكوخه، والدجاجات الثلاث والديك اليتيم يتبعونه، وهو يحمل إناءً به بعض الحبوب التي جلبها من القرية، فتتبع الكلبة - التي تكون حرة طليقة، ويربطها مساءً حتى لا تبتعد عن المكان أو يغويها أحد الكلاب - والقطة الموكب الصغير، وكأن تلك المخلوقات تغار من بعضها، وكل واحد منها يود أن يستحوذ على حب «ولد عمي».
تراه بنفس قامته المديدة ويديه المعروقتين بأصابعهما الرفيعة، المتغضنة كوجهه. وجه لفحته الشمس، يكسوه زغب أبيض مهمل، لا تصادق الموسى خديه إلا عندما يقرر السفر إلى القرية، فتسري الهمسات والغمزات بين البنائين، في ظهيرة ذلك السبت، ويدركون أنه قرر أن يشن غارة على قلاع «التيبارية»، ولا يتضايق إن نطقوا باسم زوجته...
أحياناً، يقرر السفر من دون استشارة المقاول، فيغضب عندما يفاجئه بقراره السفر هذا الأسبوع، مشيراً إلى وجود سلع جديدة قد تتعرض للسرقة في غيابه... فيصمت عبدالله، على مضض، شاخصاً ببصره ناحية قطيع غنم بعيد، يرعى بالقرب من السكة الحديد.
هل يحتاج المرء أن يستشير أحداً عند حلق ذقنه؟
سيبدو الأمر مضحكاً، وهو يتوجه ناحية سيارة المقاول في صباح يوم سبت ليبلغه بقراره السفر فجأة، لأنه يعرف أنه في مثل هذه الأوقات يكون متضايقاً، ويعتقد أن ذلك بسبب الأموال التي سيصرفها مساءً، كأجر للعمال، وسيغضب أكثر إن طلب منه البحث عمّن يبيت الليلة بــ «البراكة»، ولا أحد يحب قضاء ليلة السبت الواعدة بالمباهج في كوخ منعزل.
أبلغك أحد البنائين، وهو غارق في الضحك، حين اعترض قريبه على ذهابه، بحجة أنه كان هناك الأسبوع الماضي، وتساءل: «ماذا ستفعل هناك؟!». انسحب عبدالله صامتاً، وسمعوه يكسر الأواني، وهو يغمغم: «هو ينام في حضنها كل ليلة، وأنا يسألني: لماذا سأذهب وماذا سأفعل؟».
رنوا إلى المرأة السمراء الدميمة، الساكنة بأحد الدواوير المجاورة، وهي تمر بمحاذاتهم بقطيعها، راكبة أتانها، يسبقها ابنها، وهو يهش بعصاه على الغنم، واقترب كلبها من كلبته، كما اعتاد أن يتحرش بها - بالكلبة - كل مساء، فحدق «ولد عمي» في ركوبها الجانبي للأتان، الذي يبرز عجيزتها بشكل فاحش. لم يتحمل تلك الاهتزازات، فجن جنونه وطرد العمال، رمى الكلب بحجر، وركل الكلبة التي تعلقت بساقه. فانكمشت داخل برميل قديم صدئ، لم يعد صالحاً للاستعمال، وجّه عبدالله إحدى فتحتيه ناحية الجدار، قريباً من باب الكوخ، حتى لا يقترب أحد منه في غيابه.
منظر القطة والكلبة المسترخيتين تحت أشعة الشمس في عناق مدهش، جعلك تصاب بعدوى الرغبة في النوم، تماماً مثلما تشاهد على شاشة التلفزيون شخصاً يتثاءب فتجد نفسك لاشعورياً تتثاءب. (هل تجعلك عزيزي القارئ كلمة «تثاءب» تتثاءب مثلي الآن؟ أرجوك، لا تنم قبل أن تكتمل الحكاية).
تسمع أنين الباب، وهو يفتح، والكلبة تنبح ذلك النباح الأشبه بالتوسل المتوجع، كما تفعل الكلاب عند رؤية صاحبها الغائب معبرة عن أشواقها الجريحة بكل جوارحها، تنتفض من غفوتك الكسلى. تتمطط...
كان مجرد حلم...
لا شك أنه تسلل خفية إلى القرية، لم يعتد أن يتغيب حتى هذا الوقت عن الكوخ، حين يخرج للتسوق أو التنزه، ولا أحد بالجوار يمكنك أن تسأله عنه. أزف المغيب، وبدأت الدجاجات تحوم حول باب الكوخ مطالبة بنصيبها المسائي من العلف، ومثلها فعلت الكلبة والقطة... مهرجان صغير من التوسل اندلع بالقرب منك.
إنه مهرجان الجوع، ولا أثر لعبدالله. ما العمل؟ من يتحمل حب كل هذه المخلوقات غيرك، يا بريطل؟
تلمح رجلاً مجلبباً، أعرج بلحية شمطاء، وسحنة كئيبة، تحاول أن تتذكر أين رأيته من قبل، يصدرُ صوتٌ كريهٌ عن بومة بالجوار. تلمحها فوق العمود الكهربائي. تستغرب وجود هذا العجوز السبعيني في مثل هذا الخلاء: «أمازال حياً حتى الآن؟». لقد سبق أن رأيته في طفولتك، وكنت تتشاءم من رؤيته، لأنه صديق وفيّ لعزرائيل... حيثما شم رائحة الموت، يمم وجهه شطر ذلك المأتم، تخمن أنها تلك الشراهة المعهودة عند الفقهاء، وحبهم الخرافي لأطباق الكسكس. تبصق على الأرض، وتسارع برشق الطائر ذي الرأس المدور بكل قوتك، كأنما ترمي طائر الخرائب، وربيب المقابر... بحجر واحد
إقرأ أيضا لـ "هشام بن الشاوي"العدد 3292 - الأحد 11 سبتمبر 2011م الموافق 13 شوال 1432هـ