الظن ليس سوءاً كله؛ بدليل «بعضيته» كما ورد في القرآن الكريم؛ فالظن لا يتولد ولا ينشأ ولا يستقر ولا يستقيم إلا بروابط واستنتاجات عقلية/ ذهنية، بتحفيز من ذاكرة قادرة على الاستدعاء، تترك للعقل مساحة إعمال وقراءة واستنتاج، ومن ثم الوصول عبر كل ذلك إلى مساحة هي بين - بين: عدم اليقين في موضوع الظن؛ بحيث ينتفي ويتلاشى. أو الإمساك بعلامات تبرر بعضيته.
وبروز الظن أو بعضه، يكشف عن مساحة التوتر والقلق المهيمنة على أي واحد منا. بعض ذلك البروز قد يكون محقّاً؛ فيمنحنا تلك المنجاة وتلك الحصانة؛ فيما بعضه قد يكون سوء ظن محضاً، يعمل عمله في إتلاف الترابط الإنساني، ويسهم في مضاعفة التوتر والقلق وما يرشح عنهما من محصلات ونتائج.
في السياسة الأمر أكثر وضوحاً. لا يقين في السياسة. الظن هو الدليل والموجه وجهة الاستشعار عن بُعد في هذا الحقل. اليقين يتأتى حين تكون العلاقات قائمة ومنطلقة من معايير أخلاقية بالدرجة الأولى. ولا معايير أخلاقية في السياسة في التعاطي والممارسة الراهنة. واليقين يرتكز إلى أخلاق. أخلاق تعرف مبتداها ومنتهاها من دون أن تسفه أو تتجاوز أو تقفز على حق الآخرين. و»الدين: الأخلاق». الكذب لدى المسلم والمسيحي واليهودي والصابئ والأزيدي والهندوسي والوثني واللامنتمي واحد. الكذب قبيح وليس حسناً. والسياسة اليوم لا تستقيم أمورها وأهدافها ومصالحها ما لم يكن الكذب ملح وعصب تحركها ومناوراتها. ذلك أمر لا يملك تقريره صاحب هذه الكتابة. هو أمر قرره ويقرره من تحكموا ويتحكمون في مصير العالم وأداروا ويديرون شئونه، قرروه بعد خروجهم من المعترك السياسي، عبر اعترافات غير مقصودة هنا وهناك. وثمة من مهَّد وقعَّد ومنهج تلك القاعدة وإن لم تأتِ تحت عنوان الكذب؛ لكنها تتجاوزه بمراحل ضوئية وتترك من الآثار بفعل دورها ما لا يمكن استيعابه من دمار على مستوى القيم والخيارات. فقط اقرأوا كتاب «الأمير» لميكافيللي. الكتاب الأرضي المقدس الأول لكثير من السياسيين الذين تشغلهم الغايات ولا تعنيهم من قريب أو بعيد شرعية الوسائل، أو درجة أخلاقيتها من عدمه.
في السياسة لا يوجد «بعض الظن». السياسي يتحرك ويفكر ويناور ويصافح ويعانق ويقبِّل ويبتسم ويمدح أمام كاميرات التلفزة ووسائل الإعلام وهو مزنر ومسور ومشحون بالظن ممن صافحهم وعانقهم وقبَّلهم وابتسم لهم ومدحهم. لا يقين في العلاقات في السياسة، إذا ما تم الشك بأن ثمة مساساً بالمصالح؛ أو إذا تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود في أن مصالح أحد الطرفين في طريقها إلى التهديد أو التهميش أو المساس ببعض تفاصيلها. ذلك ينطبق على الإخوة في المصير، أو أولئك الذين يتآمرون على حال الأخوة العابرة في الدنيا. الأخوة المؤقتة المحكومة بالمصالح ولا شيء غيرها.
ربما هي المرة الأولى التي أستشهد فيها بمقولة من دون أن أتذكر صاحبها «على الذي أنفه من خشب ألا يستهين بالفؤوس». ربما تكون للكاتب البولندي تاديوش كونفيسكي؛ قد يكون نص على ذلك في كتابه «قيامة مصغرة» (a minor apocalypse)، الكتاب ضمن مكتبة ضخمة فقدتها في تنقلات وأوضاع؛ لكنه يظل حاضراً في الذاكرة حين يتناول الدولة والأمن والتقدم والتخلف ومواعيد الإنتاج وهوس اللحاق بالغرب، كل ذلك في كتابه من حيث التأصيل ومراقبة هذا الحقل (السياسة) بكل خروقاتها ولا أخلاقياتها.
والذين يمارسون السياسة اليوم إمعاناً في ظنهم السوء تجاه كل ما حولهم من بشر، ليسوا بمعزل عن تلك المقولة. هم في الصميم منها؛ فالسياسي الذي وظيفته مراكمة الأزمات، وزرع الألغام، وتوتير العلاقات، وتسميم الآبار والذهاب حتى النَّفَس الأخير لتحويل هذا العالم؛ أو على الأقل العالم الذي يتحرك فيه، إلى حقول من ألغام وكمائن من استدراج، ينسى أنه في نهاية المطاف سيخضع إلى قوانين الطبيعة لا السياسة، وأنه سيخضع أيضاً في نهاية المطاف إلى نتائج الهندسة التي اعتنقها وتبناها، ولن تولِّد له إلا الخراب والدمار والتفكك والازدراء من قبل الذين كانوا قريبين منه، قبل أن يتم ازدراؤه من الذين اكتووا بنار سوء ظنه وتآمره عليهم.
أولئك هم الذين سيتحولون إلى فؤوس تحطم ليس أنوفهم الخشبية؛ بل كيانهم ووجودهم الذي سيكون أكثر ضعفاً وهشاشة من الخشب.
أعلم ألا شيء أو فكرة أو دولة أو مصلح يمكن له أن يزيل الظن أو بعضه في العلاقات الإنسانية، وتلك سنة لا يمكن تجاوزها أو تفاديها؛ ليس لأن فيها منجاة وحصانة للإنسان في جانب من قيمتها؛ ولكن لأنها من جانب آخر؛ نافذة وإطلالة يمارس من خلالها الإنسان مرانه العقلي والنفسي لتحديد وقراءة وانتخاب علاقاته ومواقفه والتزاماته وتعاطيه مع العالم وبشر العالم من حوله
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3292 - الأحد 11 سبتمبر 2011م الموافق 13 شوال 1432هـ
يا ويلهم من العذاب
الويل للفئه التي تخلق الظن السئ وهي متعمده وتنشره بين البشر وتغويهم باعمالها السيئه فالنهايه ستكون سوداء ولن يرحمهم الله بسبب اعمالهم التي نهى عنها في القران و عن طريق رسله وانبيائه