في الفصول السابقة اقتبسنا العديد من النصوص لعدد من الكتاب تعطي جانباً لصورة المرأة في التراث وأوضحنا كذلك واقع «ثقافة حب إنجاب الذكور» في البحرين ودول أخرى، ويتضح لنا من كل ذلك أن صورة المرأة تكاد تكون واحدة من خلال التراث الشعبي في العديد من بلدان الوطن العربي التي مر ذكرها سابقاً،
يبقى الخلاف في مدى حدّة الصورة ومدى غنى المنطقة بالمادة التراثية الموثقة وربما لاحظ القارئ الاقتباسات العديدة عن كتاب من المغرب العربي وذلك بسبب ما تزخر به هذه المنطقة من غنى في المادة التراثية التي تهافت على تحليلها العديد من الكتاب، ويوضح جليل بناني في بحثه عن تاريخ علم النفس في المغرب مدى تهافت الإثنولوجيون على المغرب، حتى أوائل الأطباء الذين قدموا لها اهتموا بالتراث حيث «يتمثل الهدف الذي توخَّاهُ أول الأطباء الفرنسيين بالمغرب، بشكل صريح أو ضمني، في اكتشاف التقاليد، وفهم المرضى وجعلهم يقبلون العلاج قبولاً أفضل» (بناني 2000م)، فهناك عوامل مشتركة ما بين المرض والتراث والمتمثلة في مفهوم أثر الجن والسحر، وقد عرفوا أولئك الأطباء أن النساء المسنات يمتلكن قدرة سرية، ففي الغالب تكون تلك النساء هن الحاملات للجزء الأكبر من التراث الشعبي. الكاتبة الفرنسية de Lens وهي ابنة طبيب وحفيدة طبيب عرفت كيف تستنطق النساء المسنات في المغرب وتستخرج العديد من أسرار الممارسات العلاجية والوصفات السرية والخرافات والأساطير المتعلقة بها وجمعتها في كتابها «Pratiques des harems marocains» الذي صدر العام 1925م.
في البحرين والخليج العربي بصورة عامة هناك ندرة في توثيق التراث النسائي إلا أنه بالإمكان ملاحظة القواسم المشتركة بين ما تم توثيقه في منطقتنا بالمناطق الأخرى، ويمكن القول إن التراث المتعلق بالنساء وبالخصوص الأمثال سارت على نهج معين وكأنه نهج محدد بصورة مسبقة.
تتغير أدوار المرأة عبر الزمن فتكون في البداية بنتاً ثم زوجة ثم أماً وتكبر حتى تصبح حماة أو عمة ثم جدة، وخلال هذه الأطوار يتغير منظور الرجل للمرأة، وقد صيغت الأمثال الشعبية المتعلقة بالمرأة ضمن إطار معين ولكن من أكثر من منظور حيث ينظر للدور التي تلعبه المرأة وليس للمرأة بحيث نجد أن الأم لها قدسيتها كرمز ولكن ليست كامرأة فهذه الأم هي أيضاً زوجة أو كنة أو حماة ولكل دور من الأدوار السابقة ينظر له بنظرة مختلفة يعبر عنها في الأمثال الشعبية، وهناك تعليل شعبي لهذا التمثيل المتباين لصورة المرأة في الأمثال الشعبية، وقد صاغت بعض الشعوب ذلك التعليل في أسطورة تؤطر صورة المرأة في الأمثال الشعبية تلك الأسطورة التي ذكرها إدوارد وسترمارك ونقلها العديد عنه:
«يقول المغاربة: عندما يزداد (أي يولد) مولود ذكر يولد معه مئة شيطان، وعندما تولد طفلة يولد معها مئة ملاك، لكن في كل سنة ينتقل شيطان من الولد إلى البنت وينتقل ملاكٌ من المرأة إلى الرجل، بحيث عندما يبلغ الاثنان مئة عام يصير الرجل محاطاً بمئة ملاك فيما تصير المرأة محاطة بمئة شيطان» (بناني 2000م).
يلاحظ من الأسطورة السابقة أن صورة المرأة المسنة أو العجوز في التراث هي الأكثر دونية بل تشبه بالشيطان وهذه ليست صورة حصرية في المغرب فقط.
عجوز النار هو مصطلح منتشر في البحرين ودول عربية أخرى ويطلق عادة على المرأة التي تثير الفتنة وأحياناً يستخدم كإحدى الشتائم للمرأة ويبدو هذا المصطلح ما هو إلا من ترسبات صورة المرأة المسنة التي ينظر لها على أنها شيطان تثير الفتن، إلا أننا لم نتمكن من الحصول على مثل شعبي في منطقتنا يشير لتشبيه العجوز أو المرأة المسنة بالشيطان، بينما في المغرب فيمكننا العثور على أكثر من مثل حيث ذكر بناني في دراسته السابقة المثل المغربي:
«ما يقوم به الجني في عامٍ تقوم به العجوز في ساعة واحدة»
وذكرت منية بل العافية في كتابها المثل المغربي الآخر:
«الرجل مناين (ما أن) كيوصل (يصل) لتمانيين عام كيولي (يصبح) ولي (من الأولياء الصالحين)، والمرأة مناين (ما أن) كتوصل (تصل) لستين عام ما كتصلح (لا تصلح) غير لجهنم».
وتؤكد لطيفة لبصير هذه الصورة الدونية للمرأة المسنة في التراث الشعبي وذلك في دراستها «المرأة في الحكايات اللقيطة» حيث جاء فيها:
«نجد في مجتمعنا المغربي مثلاً هذه الصفة حاضرة في الحياة اليومية، إنها تشكل نوعاً من الاستعارات التي نحيا بها دون أن نسأل عن مصدرها، فنحن نستعمل كلمات من قبيل «الشارفة، العقيصة، السحارة»، وهي ألفاظ تضع المرأة المسنة في أحط المراتب، في حين لا نتهم الرجل المسن بنفس الألفاظ، بل إن النساء ينتهين اجتماعياً مع بداية انتهاء الطمث، وتصبح المرأة وكأنها تدخل خانة الانزواء والنسيان. ويرى الباحث شارل فريدريكسون في اشتغاله على الحكاية أن فهم ذلك هو تهمة، ذلك أن المجتمع يضع هؤلاء النساء باعتبارهن غير حاضنات، في خانة الأشياء النيئة، والمنفصلة جنسياً، وهذا يجعل المرأة في حالة الذنب والتهمة، فهي امرأة مذنبة اجتماعياً، لأنها ضد المجتمع، وتسعى إلى أن تكون كما ترغب هي ذاتها، لا كما يصنفها المجتمع في خانة المرأة المنتظمة الخاضعة».
وقد ارتبطت صورة المرأة المسنة في الحكايات الشعبية بالساحرة ونجد هذا الارتباط في العديد من الحكايات الشعبية في دول مختلفة، وحول هذه النقطة تقول لبصير في دراستها السابقة:
«إن الحكاية غالباً ما تلصق صفة السحر بالمرأة، وبالرغم أن السحر ينتمي للرجال وللنساء، إلا أنه غالباً ما يضطلع بصفة القوة لدى الرجل، في حين تلصق صفة السلبية بصورة المرأة الساحرة، ذلك أنها بعرف المجتمع كائن ناقص يسعى إلى تعويض نقصه بالقوى الشريرة التي تسخرها لتوقف الخصب القادم».
المرأة تحكي عن المرأة
العديد من القصص التي كنت قد استمعت لها شخصياً كغيري من الصغار الذين يجتمعون حول أفراد الجيل السابق ليستمعون للقصص التي كانوا يروونها، قد يكون الراوي رجلاً أو امرأة إلا أن القصص ذاتها، وغالبية تلك القصص تحكي عن كيد النساء أو دهائهن أو خيانتهن، قصص من أمثال قصة «رمان البديع» أو «الجار والدجاجة» ناهيك عن القصص المرتبطة بالأمثال من مثل المثل «إذا كسرت الجرة مشقت الحصير» والمثل «تستحي من طيور السدرة» ويقابل هذا المثل الأخير المثل المغربي «تستحي من الديك»، وكل تلك القصص والأمثال تشير إلى خيانة المرأة ومكرها، تقول لطيفة لبصير:
«وتنتشر حكاية المرأة الخائنة في العديد من الحكايات، بحيث لا نتحدث عن الرجل الخائن، ولو أن المهيمن في المجتمع هي خيانة الرجل، لكن الحكاية تنسج هذه الصفة وتلصقها بالمرأة، بحيث تصير ملازمة لها، ويمكن للأمثال أن تنقل هذه الصور، لأن في عمق كل مثل حكاية ما، فالكيد صفة ملازمة للمرأة، وكأنها لا تستطيع أن تتخلص منه، أو كأنها تعيشه كنوع من التحايل الاجتماعي لوجودها الناقص الذي لا يكتمل إلا في الخفاء».
تلك القصص ليست حصرية على الرجال فالنساء أيضاً تروي القصص ذاتها، فالمرأة عندما تتحدث عن نفسها فهي تروي ظلامتها ولكن عندما تتحدث عن النساء الأخريات فهي تتحدث بلغة المجتمع أو الثقافة التي تعيشها والتي ترسم صورة معينة للمرأة، تقول لبصير:
«فالمرأة في كل المجتمعات تسرد عن المرأة وتحكي حكايتها بلغة المجتمع، ولكنها تتحول إلى ساردة مغايرة حين يتعلق الأمر بحكي حكايتها الخاصة، فهي تصير امرأة «مسكينة»، «ضحية»، «مقهورة»، وبهذا فالنساء ينسجن خطاباً مزدوجاً، فهن يعشن لغة، ويتحدثن لغة أخرى مغايرة تماماً لنسجهن، ولذا يمكن القول، إنهن يتحدثن لغة المجتمع، ويعشن واقعهن الخاص».
هناك صراع ضمن نوعي بين النساء ناتج عن غرائز المرأة وفي مثل هذا الصراع عادة ما يكون هناك طرف ظالم والطرف المقابل له وهو المظلوم، فالظالم هنا امرأة والمظلومة كذلك امرأة والتراث الشعبي في الدول العربية غني بهذه المادة التراثية فهناك صورة زوجة الأب (مرت الأبو) الظالمة وهناك الصراع ما بين الأم وزوجة ابنها، ويلاحظ هنا أن صورة زوجة الأب أوضح مثال أن العداء ليس للمرأة بل للدور التي تلعبه المرأة، فزوجة الأب من ناحية هي أم أي أنها رمز مقدس في التراث الشعبي ولكنها في نفس الوقت زوجة أب أي يرسم لها صورة المرأة الظالمة وبذلك تكون هذه المرأة رمز مقدس وفي نفس الوقت رمز للظلم فالعداء، إن وجد، فليس للمرأة ذاتها بل للدور الذي تلعبه تلك المرأة
العدد 3292 - الأحد 11 سبتمبر 2011م الموافق 13 شوال 1432هـ