خلاف الكيمياء والفيزياء والفطرة معاً، أن يخشى الناس أوطانهم حدَّ الرعب. الخشية من الأوطان دليل خلل وشرخ. والأوطان هنا ليست التراب والسماء والهواء والماء والشوارع والأرصفة والحدائق والمستشفيات والسجون والمكتبات. إنها ذلك الحبل السري في الروح؛ تماماً كما هو الحبل السري الذي نخرج به إلى هذا العالم مع أول وفادتنا عليه.
الأوطان التي يخشاها الناس حدَّ الرعب؛ تلك التي تريد لمواطنيها أن يحيوا من دون أرواح أو حس أو كرامة. ألا يشعر الإنسان بقيمته في المكان والتفاصيل. ألا يشعر بقيمته في الوقت؛ وحين لا يعترف بقيمته ويراد له أن يكون مسيّراً لا مخيراً. وعلى رغم ذلك؛ لا أوطان بتلك المواصفات قادرة على انتزاع حب أهلها منهم أو حتى مواراته؛ وإن اتسعت مساحات المرارة وتضخمت حال اليأس من عودة الأوطان إلى فطرتها وكيميائها وفيزيائها؛ كما هي فطرة الناس.
العربي المبتلى بتاريخ طويل من العيش خوفاً وتلفتاً في أوطانه، هو أكثر مواطني وبشر الأرض تمسكاً وتوحداً وحنيناً وانشداداً لترابه وأرضه؛ ربما هي طبيعة الروح والتأسيس النفسي الذي أنتجته ثقافة وروح هذه الأوطان؛ بدءاً بالوعي الديني وتمركزه؛ وليس انتهاء بقناعة أن هذه الأوطان قدر المرء بحلوه ومره، وبالنادر من الأمل وفيض لا ينتهي من اليأس. والذين قدر لهم أن يذهبوا في هجراتهم الاختيارية أو تلك القسرية، يعون تماماً حصة الهشاشة التي تصفع الإنسان حين يصحو من نومه ويفتح عينيه على مكان ناء ليس عن الوطن؛ بل عن الروح وعما في داخله من انتباهات لم تكن حاضرة بتلك الصورة المستفزة في مكانه الأول. كانت ضمن حزمة كبيرة من العابر والمهمل من تلك التفاصيل.
ثم إن الأوطان لا تخترع أو تشترى كي يتسنى لك الخلاص من الخشية تلك. خشيتك من نارين: نار ألا تنصفك وتدفعك دفعاً إما إلى الجنون وإما إلى الانتحار، وفي أحسن الأحوال، الموت اليومي والبطيء، وخشية ألا تصحو على تفاصيله مضطراً في مواسم هجرات لا تنقطع في جهات الله بحثاً عن خلاصك الفردي والمؤقت؛ إذ يظل مؤقتاً بمؤقت اختيارك له؛ بعيداً عن ترابك الأول وسمائك الأولى.
هذا التشبث بالأوطان حتى وهي تمعن في إذلالها وتهميشها للإنسان، لم يأتِ من نِعمٍ تنزل على المواطن من فوقه ومن تحته (النِّعم الظاهرة) فهي لا تمس إلا القريبين من دوائر القرار والمتمصلحين من ورائها. مرد ذلك التشبث، حال تقترب من المرض. هنالك بشر اليوم لفرط حبهم حتى لبعض بني جنسهم يكادون يألفون ويدمنون الإهانات والعذابات التي تصدر عنهم؛ بحيث تصبح مع مرور الوقت جزءاً لا يتجزأ من ضبط الشعور واتزانه ولازمة من لوازمه. على أن ذلك الحب للأوطان تلك لا يعني القبول أو السكوت عما يحط بالكرامة أو ما دون ذلك، ويصادر الحقوق ويصبح فيها الإنسان نهباً لكل ذي سطوة أو مقام طارىء، وما يتمخض عن تلك الممارسات من احتجاجات وغليان لا يكاد يخلو منه قطر عربي، في ربيع عربي استهانت فيه الأنظمة بدم الإنسان. كل ذلك دليل على أن الأوطان لا يمكن أن تعيش وتصلح ما لم تصلح الحياة فيها، وما لم تصلح حياة إنسانها؛ باعتباره أساس تلك الأوطان وقطب رحاها.
وعلى الأوطان أن تخشى ساعة يخشاها أبناؤها حدَّ الرعب
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 3290 - الجمعة 09 سبتمبر 2011م الموافق 10 شوال 1432هـ
روعة
قرأت للأستاذة الفاضلة منذ فترة بسيطة ولكن بصراحة شدتني هذه المقالات في كل شيء الفكرة الحبكة الأسلوب الصياغة الطلاوة..... رائعة وفقك الله
بوعبدالله