في مساء الأحد 21 أغسطس/ آب 2011 اندفعت قوات الثوار الليبيين إلى العاصمة طرابلس والتحمت بقوات المقاومة داخل المدينة بسهولة ويسر وسرعة فاجأت الثوار أنفسهم.
لقد كانوا يتوقعون مقاومة شرسة حيث توعدهم القذافي بالقتال حتى آخر رجل، ودعا ملايين الليبيين بالزحف إلى طرابلس وقتال من أسماهم بـ «الخونة والمستعمرين». لكن عشرات الآلاف من المقاتلين هم الذين زحفوا إلى طرابلس لمحاصرته في ثكنة باب العزيزية التي سقطت بيسر، وفرّ القذافي هارباً من دون مقاومة. وهكذا سيطرت قوات الثوار على المدينة خلال ثلاثة أيام، وانتصرت الثورة التي انطلقت في 17 فبراير/ شباط في بنغازي بالشرق الليبي، إثر القمع الدموي للأهالي الذين أحيوا ذكرى مئات الضحايا ممن أعدموا في سجن بوسليم في 1986.
على امتداد 42 عاماً قدم نظام العقيد القذافي نموذجاً لانحطاط حكم العسكر الذين صعدوا إلى السلطة باسم الشرعية الثورية وتحرير الشعب من الحكم الرجعي وتحرير البلاد من التبعية للإمبريالية، إلى حكم تسلطي على الشعب والمساومة مع القوى الأجنبية.
جسد نظام القذافي النموذج المتطرف لحكم الفرد المديد وحكم العصبة الضيقة، حيث يتفاخر القذافي بقولة: «أنا معمر القذافي عميد الزعماء العرب». وتوّج نفسه ملك ملوك إفريقيا، وهو الذي استمد شرعيته بالانقلاب على الملك إدريس السنوسي. ولو قدر له الاستمرار في الحكم بضعة أيام حتى الفاتح من سبتمبر لكان القذافي قد حكم ليبيا طوال الــ 42 عاماً، وهو رقم قياسي تاريخي لا تضاهيه إلا الملكة فيكتوريا في بريطانيا.
لكن العقيد القذافي ينفي تكراراً أنه حاكم وله منصب رسمي، منذ أعلن عن قيام سلطة الشعب في مدينة سرت، وكرّرها مؤخراً بعد اندلاع الثورة ضده بقوله: «لو كان عندي منصب رسمي كنت رميت استقالتي في وجوهكم». على رغم تبنيه اللفظي لسلطة الشعب من خلال اللجان الشعبية وبقيادة اللجان الثورية والرافضة للدولة، ورفضه حتى للنظام الجمهوري بحيث تبنى تسمية الجماهيرية العربية الليبية العظمى، فإن نظام القذافي في حقيقته نظام بوليسي استبدادي عائلي وعصبوي.
بدأ القذافي بمجلس قيادة الثورة المفترض أنه مجلس ضباط أحرار أنداد، فعمل على تصفية منافسيه أو إبعادهم، حتى أصبح القائد المطلق للثورة.
يتبنى القذافي لفظياً نظام حكم الجماهير لنفسها بنفسها من خلال المؤتمرات الشعبية التي تنتخب أمانات لتدير البلاد على كل المستويات، لكن الحقيقة هي أن الذي يقود الأمانات الشعبية هي اللجان الثورية، أو التنظيم الحديد الذي يتحكم فيه القذافي!
استنبط العقيد النظرية الثالثة رافضاً الرأسمالية والاشتراكية كما بينها في كتابه الأخضر، الذي اختزل برأيه المعرفة البشرية. وهكذا أضحى قائد الثورة فوق المساءلة والحساب، على امتداد 42 عاماً، دمر خلالها بنية المجتمع السياسي والمدني الذي كان موجوداً بشكل جنيني في المجتمع الليبي قبل انقلابه. وحوّل الشعب إلى سديم يمارس عليه تجاربه، وفي الوقت ذاته تسلطت اللجان الثورية والمخابرات على الشعب ليعم القمع كل مناحي الحياة ومرافق الدولة وجميع فئات المجتمع.
ليبيا بلد غني بثرواته النفطية والبحرية والزراعية، مع عدد سكان قليل، لكن القذافي بدد هذه الثروة من خلال إدارة اقتصادية سيئة، والإنفاق على التسلح، بما في ذلك مشروع البرنامج النووي العسكري المكلف جداً، حيث اضطر القذافي من أجل المصالحة مع الغرب إلى تفكيكه وتسليمه إلى الولايات المتحدة. كما أن مغامرات القذافي الخارجية ومشاريع مد نفوذه وتعميم النظرية الثالثة، قد كلف الكثير أيضاً.
لا يعني ذلك أنه خلال 42 عاماً لم تتحقق مشاريع تنموية في القطاعات الصناعية والزراعية والبنية الأساسية والإسكان والتعليم والصحة وغيرها، لكن ذلك لا يتماشى مع إمكانيات ليبيا الاقتصادية والنفطية. كما أن ليبيا تمتلك صندوقاً سيادياً تقدر موجوداته بـ 70 مليار دولار يمتلك أسهمها في العديد من الشركات. كما أن احتياط المصرف المركزي الليبي يقدر بـ 1400 طن من الذهب تبلغ قيمتها ما لا يقل عن 6 مليارات دولار، لكن المشكلة أنه لا يوجد حد فاصل بين ملكية الدولة وملكية القذافي وأبنائه، فقد كانت ليبيا تدار كإقطاعية نفطية، ويمتلك أبناؤه الكثير من المصالح التجارية الهائلة.
الدور الخارجي... الآمال والخيبة
بعد موت الرئيس عبدالناصر المفاجئ، تطلع القذافي الذي وصفه الرئيس الراحل بـ «أمين القومية العربية»، إلى لعب دور قيادي عربي، ثم تطلع إلى دور إفريقي وعالمي. وقد جاء خروج مصر في ظل أنور السادات من موقعها القيادي القومي، ليسهل المهمة.
بالتأكيد رحبت المقاومة الفلسطينية بعد مجزرة أيلول، وكثير من قوى المعارضة العربية المضطهدة بذلك، وتوجهت إلى ليبيا القذافي من أجل دعمها ونصرتها. كذلك الأمر للكثير من حركات التحرر الإفريقية والعالمية والبلدان النامية التي وضعت آمالها في قيادة القذافي. كما تصدى القذافي للسياسات الغربية بقيادة الولايات المتحدة في الوطن العربي وإفريقيا والعالم، وتعرّضت ليبيا بسببه إلى العزل السياسي والحصار الاقتصادي، وتوّج بالعدوان الأميركي ضد ليبيا في 1986. لكن نظام القذافي وهو يتصدى لهذا الدور، كان يفتقد إلى استراتيجية متماسكة قابلة للتنفيذ وتحالفات استراتيجية راسخة، بل تميز سلوكه بتجريبية متقلبة وفتح معارك جانبية والمراهنة على قوى هامشية، ومحاولة إسقاط تخيلاته قسراً على الآخرين.
دخل القذافي في مشاريع وحدوية غير واقعية انتهت إلى الفشل والمرارة مع الأطراف المعنية مثل مصر وتونس. وتحوّل التحالف مع العديد من القوى إلى تدخل في شئونها الداخلية مثلما حدث مع المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية. وسعى لاكتساب حلفاء لقوى هامشية منافقة وأنظمة متهالكة سعت وراء المال، تحت وهم تبني النظرية الثالثة الخيالية. دخل في حرب مع تشاد الفقيرة المتخلفة حول شريط أوزو وخسرت الحرب بكلفة عالية وخسرت شريط أوزو في التحكيم الدولي.
دخل في مواجهات مع القوة العظمى الولايات المتحدة والغرب من دون حسابات دقيقة، ومغامرات خطيرة كتفجير ملهى لابيل في برلين وإسقاط طائرة ألبان أميركان فوق لوكربي، ودفعت ليبيا ثمناً باهظاً نتيجة العدوان الأميركي والحصار الغربي. وانتقل من سياسة المواجهة مع الغرب بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك المعسكر الاشتراكي إلى التقارب مع الغرب. وقد دفع ثمن ذلك باهظاً جداً بتفكيك برنامجه النووي، والتخلي عن طموحاته الثورية، وإعطاء امتيازات وعقود باهظة للغرب.
السقوط إلى الهاوية
تعامل الغرب مع ليبيا بانتهازية شديدة، فاستقبل القذافي على السجاد الأحمر في العواصم الغربية، وتقاطر القادة الغربيون إلى خيمة القذافي في الصحراء، لاقتناص العقود وتأمين تدفق النفط، وتخلى الغرب عن الشعب الليبي وطموحاته في الحرية والديمقراطية.
وعلى النطاق العربي، جرى التراجع المخيف عن القضايا القومية، ليتقدم ما يعرف بمعسكر الاعتدال العربي المتهاون مع «إسرائيل» والمتحالف مع الغرب. ودخل القذافي في دوامة التحالفات العربية المتقلبة وغير المبدئية. وبعد خيبات أمله في إنجاح مشروعه على النطاق العربي، تصدى القذافي لدور القائد الإفريقي والعالمي الذي يملك المال والرضا الدولي وخصوصاً الغربي، وهنا أيضاً تحلق من حوله الانتهازيون الطامعون في المال، ولم يمانعوا في تتويجه ملك ملوك إفريقيا أو القائد الأممي كما يحب أن يتفاخر.
أمعن القذافي في مركزة السلطة والثروة في يده ويد عائلته وعصبته، وفاحت فضائح الجنس والتبذير وإساءة السلطة في أوساط حاشيته. وعندما اندلعت شرارة الثورة العربية، من تونس المجاورة، ردّ عليها باستخفاف مقرّعاً الشعب التونسي لطرد الطاغية زين العابدين بن علي. أما ابنه سيف الإسلام، فقد سخر من مقارنة ليبيا بتونس مهدّداً من يتمرد بالسحق. وحتى عندما اندلعت الثورة في بنغازي في 17 فبراير/ شباط الماضي وصف القذافي المنتفضين بالجرذان، مطالباً الشعب الليبي بالزحف عليهم وتطهير البلاد منهم شبراً شبراً، زنقة زنقة، فرداً فرداً.
لم يدرك القذافي أن ترسانة الأسلحة التي اقتناها ستسقط في يد خصومه، ولم يدرك أن الجمهور السديم الذي يتبعه هو في أعماقه غير مقتنع به. لم يدرك عمق الغضب والمعاناة، ولذلك عندما انطلقت الشرارة، اشتعلت ليبيا بأكملها. كما أن القذافي لم يدرك أن الغرب بقدر ما فرش له السجاد الأحمر فإنه لم يتردد بإرسال آلة حرب الأطلسي المدمرة ضده، بعد أن انهارت الأرض تحت أقدامه. الغرب يهمه بترول ليبيا فقط وليس شعب ليبيا. من هنا يتوجب على الثورة الليبية أن تدرك ذلك جيداً، وتتصرف على هذا الأساس.
هل يعتبر الحكام العرب
مرةً أخرى يقدم مصير القذافي المأساوي، للحكام الاستبداديين العرب العبرة، فهل من معتبر؟ امتلك القذافي السلطة المطلقة والثروة الهائلة وحكم ليبيا كإقطاعية، وتعامل مع الشعب الليبي كرعايا. تصرّف بثروة ليبيا النفطية كمالٍ خاص، وتجاهل حقوق الشعب الليبي في السيادة على بلاده وثروته وحكم نفسه بنفسه. الأكثر من ذلك أنه نصب نفسه مفكّراً لا يُناقَش، وصاحب نظرية فرضها على الشعب الليبي وسعى إلى تعميمها عالمياً، مبدّداً في سبيل ذلك ثروات الشعب الليبي، ومفسداً بذلك نخباً وأحزاباً وتنظيمات ودولاً.
قد يكون القذافي نموذجاً متطرفاً للحاكم العربي الممسك بالسلطة والثروة، ونموذجاً لحكم العائلة والعصبة الضيقة، لكن العديد من الأنظمة العربية قريبة من نظام القذافي، ولم تجد غضاضة من إقامة أفضل العلاقات معه.
سقط الدكتاتور الثالث في سلسلة المستبدين العرب، فهل يراجع الحكام العرب أنفسهم، ويتوجهون إلى شعوبهم طالبين الصفح والغفران ومصالحة شعوبهم، قبل أن يجرفهم الطوفان؟
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 3289 - الخميس 08 سبتمبر 2011م الموافق 09 شوال 1432هـ
حكايات مؤلمة-مواطن مغترب-3
كنا نسمع الكثيرعن مفاصل القذافي وحكاياته كماكنا نصاب بهستيريامن الضحك عندمانقرا مرئياته المشخصةفي الكتاب الاخضرعن نظريته الجديدة للتطور ولدى استماعنا للجمل غير المالوفةفي خطاباته لكن لم يكون بوسع احد في وقتها ان ينبرء بالنقد او قول كلمة واحدة بغير الايجاب عن ما يطرحه من مرئيات ومنطلقات فكرية وها قد سقط الجمل وكثرة سكاكينه من الطبيعي ان نعرف الكثيرمن المواقف والحكايات التي بحد ذاتها دروس جامعة لنا فهل نكون قادرين في استخلاص العبرمنها.؟
حكايات مؤلمة-مواطن مغترب-2
من تلك الحكايات حدثني احد الاخوة اثناء لقاء جمعهم بالقذافي عن توجيه اتسمى بالحماقة وقصر النظر في مفاهيم العمل الوطني حيث اشار اليهم لماذا لا تحرقوا ابار النفط في بلادكم.؟ وعلى الرغم من عدم رضائهم على ما سمعوه وجد الاخوة ضرورة السكوت تحاشيا للعقاب وفي سياق تلك الحكايات حدثنا صديقا اخر عن لقاء جمعهم بالقذافي مع الشباب العربي حيث جلس يكيل المواعض لهم حتى وقت متاخر الليل حتى بلغ النعاس بعضهم وقد اغضبه ذلك المشهد وخرج الى الشارع وهو يصرخ الشباب العربي مابينام وخرج اهالي طرابلس يصفقون من ورائه.
حكايات مؤلمة_مواطن مغترب
القدافي حكاية الحكايات وهو لا يختلف عن غيره من الجبابرة الذين يصنعون الكذبة ويصدقونها كما هو عليه الحال في نظرية هتلر ويعيشون حالة الخيال والحلم بالعظمة ويصدقون انفسهم وبطاعة من حولهم كما يرون في نفسهم حادقي الرؤية والتوجيه الحكيم واجزم ان جميع الاخوة العرب سجلوا من خلال لقاءاتهم فيض من هذه الحكايات التي منها المؤلم والمضحك في ان واحد.
هل من معتبر؟
فهل يراجع الحكام العرب أنفسهم، ويتوجهون إلى شعوبهم طالبين الصفح والغفران ومصالحة شعوبهم، قبل أن يجرفهم الطوفان؟
شكرا لصاحب المقال البناء
القذافي
عبرة لمن يعتبر لم تكن مدة حكمه الطويلة دليلا علي صحتها لأن دليل الصحة هو شكل العاقبة
ابشركم
فهل يراجع الحكام العرب أنفسهم، ويتوجهون إلى شعوبهم طالبين الصفح والغفران ومصالحة شعوبهم، قبل أن يجرفهم الطوفان؟
..........