يغريك الضجر أحياناً كي تنسى ما هو أمرُّ وأسوأ منه. يغريك حين تتحايل عليه بالبحث عن فكرة تستفز من لا أرواح لهم. تستفز الذين وجدوا في الحياة وقد طالت بطالتهم، وهمُّهم الأوحد أن يجعلوا من هذه الحياة محطة أخيرة لكل روح ونبض واحتجاج وصرخة وتمرد حق وسخرية وضحك حد الاستلقاء على القفا، والفحص بالرجلين.
يغريك هذا الضجر كي تعيد الاعتبار إلى طقوس حضورك في هذا العالم. حضورك كما تريد وتخطط وتنوي وتمكر وتذل أحياناً. فقط تحتاج إلى أن تتحول إلى غزالة تلتهم طاقتها المسافات قبل أن تفحص لياقتها في ظل الأسوار والكمائن.
يغريك هذا الضجر حد الذهاب إلى ملاسنة مع نفسك. ووحدك القادر على تهيئة بيئة أدب احتجاج وملاسنة؛ بعيداً عن ترصُّد الدساتير بحسب المواصفات والمنافع، ببنودها وتكييفاتها وسوء تفسيرها واستغلالها أيضاً، في صور فجَّة لا تختلف كثيراً عن انتهاك حرمة البيت الحرام؛ حين تنتهك بسوء التفسير والاستغلال حقوق الناس. وحرمة البشر عند الله؛ في الصريح والرمزي من النصوص، أكبر من حرمة البيت الحرام نفسه.
يغريك هذا الضجر كثيراً هذه المرة؛ وليس أحياناً، لحظة تتأمل ما/من حولك وقد تحوَّل غالبيتهم إلى رابطة مشجعين تهتف بالعبث وغيبوبات باتت وشم الحضور الذي لا حضور فيه وله؛ بغلبة الطبَّالين على المتأمِّلين والدافعين والمنعشين لتوقف قلب قيمة ذلك الحضور وحيويته وقدرته على تجاوز محاولات الاستحواذ عليه، وتحويله إلى سيرك كل موهبته الاستعراض. الاستعراض لفراغه في الحدود التي تبعث على الشفقة وتؤسس لمتاهات بالجملة.
يغريك هذا الضجر حين تتحول الأحلام إلى أسلاك شائكة، والقدم الموغلة في إهانة الناس إلى قوس نصر، واستساغة اليسار لإباحة بتر اليمين، واليمين الذي لا يقل شهوة في تشريعه لبتر اليسار، وفي ظل هذا العمى/الوباء؛ تتحول قبعات الكاوبوي إلى منارات ومزارات ترى عن بعد، عبر رائحة البارود هذه المرة؛ لا عبر الروح التي تقيم في تلك المزارات!
يغريك هذا الضجر لتبحث لك عن مخارج من هذا الأتون الذي يرمِّد لحمك وعظمك وأعصابك وروحك وقدرتك على نفخ الروح في عدم تحياه ويحيط بك. لا شيء أكثر إحباطاً للروح والأعصاب من قدرتك على تحقيق ما فوق طاقتك - لحظة أمل عاقل - لتكتشف ذات ضجر محض وحصار، أنك عاجز عن تحريك سبَّابتك وأنت في النزع الأخير من الحياة؛ إذ لا يراد لك - بوهم أرضي، له ضجره الخاص أيضاً - أن تكمل فصولها، بعيداً عن شريعة الغاب الحديثة، وفي نسختها المنقحة بوقاحة بالغة!
يغريك هذا الضجر في احتكام الفضاء إلى الغرف المغلقة والدهاليز التي لا يراد لها أن تطالها الشمس. في ظل هيمنة الفوسفور ونبذ أول الشمس. في ظل ضربات ترجيح الفراغ على التصدي للخطط الخمسية للغفلة واستغفال أمم.
إلى أي ضجر نرمي، وبأي ضجر نستشهد وندلل؟ ضجرنا الشخصي؛ أم ضجر ماثل يكاد يتحكم في مزاج ومشارب وقواميس وميول وتوجهات وعقيدة وصمت وهذيان وحضور وغياب وإيمان وضلال وأحلام وكوابيس ومجد وعار وحياة وقبر ووهن وأسطورة كل ما حولنا؛ أو على أقل تقدير، كل ما اعتقدنا أنه حولنا وفي متناول رؤيتنا؛ إن لم يكن في متناول يدنا وخيارنا وقدرتنا على توجيهه والتحكم فيه. إلى أي ضجر تذهب إليه هذه الكتابة؟ ضجر عالم ممعن في تنصيص سواه؛ باعتباره طارئاً أو لا يملك حضوراً معترفاً به؛ أم ضجر الضجر نفسه لأنه لم يعد قادراً على ضبط حضوره، في ظل استدراج نِعَم لا يُرى منها سوى عظمها؛ فيما هي قادرة على فعل الاستدراج ذاك. إنه إغراء الضجر الذي استدرجَتْكم إليه هذه الكتابة
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 3288 - الأربعاء 07 سبتمبر 2011م الموافق 08 شوال 1432هـ
ولو.....
إذا كان الضجر سيولد مثل هذا الإبداع فلا بأس بالقليل منه..... مع تمنباتي لك بحياة حافلة بالهناء والحبور
بوعبدالله