تحدثنا في في مقال سابق وبلغة الأرقام عن شرارة الفقر، والبطالة، والفساد، والتمييز، والاستئثار، وضعف حكم القانون وكيف تسببت هذه العوامل مجتمعة في إشعال الحرائق في بعض الدول. كما أشرنا في مقال آخر إلى أن إهمال الأشياء الصغيرة، التي هي بمثابة الشرارة، يمكن أن يتسبب في إشعال حريق كبير يكلف إطفاءه جميع الأطراف المعنية خسائر بالإمكان تجنبها لو تم الأخذ بمبدأ الصيانة الوقائية. وسقنا بهذا الخصوص أمثلة متعددة من تجارب واقعية مازالت آثارها ماثلة أمامنا في مصر والعراق واليمن وتونس، والآن في ليبيا حيث الثمن الباهظ بسبب الإصرار على المكابرة والعناد وتعصب الجاهلية الأولى.
وفي مملكة البحرين نمرّ الآن بتحولات خطيرة مستجدة لم نشهد مثيلاً لها في تاريخنا المعاصر، وصفها أحد المسئولين الأميركيين بالحساسة التي لا يمكن التنبؤ بما تحدث من تغييرات على ضوء السيناريو الذي يتبلور للتطبيق من قبل القوى المؤثرة في المنطقة وذلك في إطار لعبة المصالح الدائمة والصداقات المتغيرة. وقبل الحديث عن التوجه الأنجع والأسلم لتوجيه دفة السفينة من المفيد أولاً إلقاء الضوء على الأرباح والخسائر والأثمان التي نستمر في دفع فواتيرها كحصيلة للنهج المتبع في إدارة الأزمة، أملاً في أن يساعد ذلك على التأمل لاستنباط البدائل الأسلم والأقل كلفة علينا جميعاً. وهذا هو المنهج العقلاني المتبع في الدول التي تتمتع بالتنمية والاستقرار الذي ننشده حكاماً ومحكومين.
من إفرازات الأزمة والأساليب الأمنية المتبعة لمعالجتها يمكننا استخلاص ما يلي:
- تغيير الخريطة الجيوسياسية للبحرين من حيث الانقسام الطائفي الذي حولنا، وفقاً لنظرية التغيير المفاجئ، إلى ما يشبه الشعبين المختلفين بعد أن كنا عائلة واحدة. لقد بتنا نعايش انحساراً في الهوية والمشاعر الوطنية لصالح الفئوية والتطرف والاستئثار، واضمحلال الثقة على خلفية من المذهبية البغيضة التي بلغت حدّاً يحجم البعض فيه عن التعامل مع الشريك الآخر في الهوية والدين والوطن أملاً في تجويعه وقطع مصدر رزقه، في حين لا يرى غضاضة من تفضيل الغرباء بغض النظر عن أصولهم ودياناتهم. إن الاستحقاقات المترتبة على انفصام كهذا في عرى الوحدة الوطنية تأتي على شكل أثمان باهظة لا تقوى على تحمل أوزارها جميع الأطراف المختلفة. ولنا في تجارب دول أخرى سبقتنا إلى هذا المنحى عبرة ليس بوسعنا تجاهلها. فهل هذا هو الحصاد المرغوب؟ أن الإجابة العقلانية على هذا التساؤل ستحدد الاتجاه ونوع المجتمع الذي نرغب أن نعيش فيه مستقبلاً.
- دخول الوطن بصورة مباشرة في عالم الاستقطاب الإقليمي والدولي الذي لن يخلو مستقبلاً من الرهانات والمقايضات السياسية التي لا نملك الإرادة في توجيه بوصلتها. ومن المفارقات الغريبة، التي تعكس حالة من التخبط والإرباك السياسي، هو استقواء طرفي المعادلة على بعضهما البعض بقوى خارجية مؤثرة تمارس لعبة شد خيوط العرائس عليهما، وذلك بدلاً من الجلوس برغبة صادقة على طاولة حوار محلية هي أسلم وأكثر مصداقية في معالجة همِّنا الوطني. فهل يساهم منحى الاستقواء بالخارج من قبل أي طرف في صون ما أنجزناه على مستوى الهوية والاستقلال الوطني؟ إن نظرة فاحصة لاستقراء المستقبل تحتم علينا وقفة للتأمل قبل أن يحين زمن الحصاد.
- توسيع قاعدة الاختلاف ممثلاً في اتساع رقعة المعارضة المتشددة للنظام السياسي والتبدل في الشعارات من الدعوة للإصلاح إلى الرغبة الجامحة في تقويض المجتمع والنظام ، يقابله في الجانب الآخر تبني أسلوب العقاب الجماعي واستغلال كل ما هو متاح من تناقضات مذهبية وإثنية على قاعدة فرق تسد، ومقولة عدم الولاء وتخوين الآخر والتنكر لحقوقه الوطنية بغض النظر عن حجم وطبيعة الاختلاف معه. وهذا المنحى ساهم في انحسار التوجه العقلاني وانكفاء قوى الاعتدال بسبب الإفراط في استخدام العقاب الجماعي وفتح الباب واسعاً أمام الراديكالية وقوى التطرف من جهة، وقوى الاستئثار وقناصة الغنائم من جهة أخرى، متناسين في الوقت ذاته بأن زيادة جرعة التهميش، الذي يعتبر أساساً للمشكلة، ليس بالضرورة هو الحل.
- وعلى خارطة الإعلام العالمي وضعت البحرين في المقدمة بحيث لا يمرّ يوماً من دون تناول الصحافة العالمية للأخبار السلبية عن بلادنا، وكان آخرها تقرير بلومبيرج الذي تصدر نشرة الأخبار المالية التي تحرص المؤسسات الاستثمارية في العالم على متابعتها. فهل أصبحنا بفعل سياساتنا هذه هدفاً للابتزاز السياسي والاقتصادي؟
- وعلى الجانب الاقتصادي نشاهد الانحسار الحاد والمستمر لفترة الانتعاش التي أنجزناها وخاصة بعد تدشين المشروع الإصلاحي، وبزوغ الأمل في مصالحة وطنية حقيقية جامعة تحسباً وترقباً للأيام الجميلة الموعودة. وكلنا يدرك ما للانحسار الاقتصادي من انعكاسات سلبية على المستوى المعيشي لكل مواطن بغض النظر عن هويته أو أصله أو عرقه. فالفقر والبطالة هما النتيجة الحتمية للتراجع الاقتصادي الذي يسببه تردد رأس المال الوطني من الاسثمارفي السوق المحلي، وانخفاض تدفق الاستثمار الأجنبي، حيث تشير الإحصاءات إلى انخفاضه بنسبة 39.4، ما يعني تراجع الانخفاض في حجم فرص العمل التي يخلقها اقتصادنا الوطني. وإذا ما تمت مضاعفة هذه السلبيات الضارة بإجراءات سياسية تمثلت في استمرار وتيرة التسريحات من العمل على خلفية طائفية، فإننا بذلك نسير في اتجاه مغاير لطموحاتنا في تحقيق الاستقرار اللازم للتنمية الاقتصادية، لأننا بهذا التوجه فد غلبنا الجانب السياسي غير المتأني على الجانب العقلاني والاقتصادي، ومثل هذا التوجه يقوض أحلامنا التي رسمناها في رؤية البحرين الاقتصادية للعام 2030.
إن هذا الوضع الشاذ يجعلنا نتساءل عن طبيعة المستقبل الاقتصادي الذي ننشده في جو من الشحن الطائفي والانشطار الوطني المسبب للفوضى وعدم الاستقرار. إن السياسة الاستعمارية المسماة بـ «فرّق تسد» قد تكون صالحة في زمن وظروف اقتصادية مختلفة إلا أنها لا تصلح للبحرين في هذا القرن الذي تشتد فيه وتيرة المنافسة الاقتصادية وتنحسر فيه اقتصاديات دول عملاقة، فهو عصر المفاجآت الذي تتعقد فيه الأمور السياسية لدرجة لا يمكن التنبؤ بما سيحدث غداً. هذه الأسباب وغيرها تفرض علينا التخلي عن توظيف أدوات بالية تتقاطع وطموحاتنا في التنمية السياسية والاقتصادية. فليست هذه الأدوات البالية هي التي حققت التقدم الاقتصادي لدولة مثل سنغافورة التي كثيراً ما اعتبرناها نموذجاً يحتذى به.
إن أمننا واستقرارنا ليس ملكاً لنا وحدنا لنعبث به بطريقة غير مسئولة، فهو جزء من منظومة خليجية متكاملة. وهذا يحتم علينا تقييم الأمور بمعيار العقل والحكمة الذي يجنبنا مخاطر التقلبات السياسية وهمّ الانشطار الداخلي الذي يسعى البعض إلى تعميقه طمعاً في غنائمه الآنية. وإذا ما اتفقنا على أن النتائج التي استعرضناها أعلاه هي حصيلة واقعية لنموذج تبنيناه لمعالجة قضايانا الوطنية. فإن تطبيق مفهوم الربح والخسارة على واقعنا يحتم علينا التوقف لتقييم الأداء. فتقييم الأداء هي الآلية العقلانية المتبعة من قبل الدول والمؤسسات التي تنشد السلامة والتقدم، والتي تبتعد عن أساليب المنافقين البالية الذين يقيسون مقدار ولائهم لمؤسسة الحكم بمقدار ما تسكب في جيوبهم من مصالح ومغانم شخصية وفئوية.
إننا مطالبون الآن بإعطاء ساحرات هاملت إجازة خاصة، ونمنح لأنفسنا فرصة للتأمل في حصاد الماضي والحاضر لتجنب التيه في دروب غامضة لا تساهم في بناء الإقليم واستقرار نُظمه السياسية.
لقد أكد خطاب جلالة الملك على ثوابت الوحدة الوطنية وقيم التسامح والعدل بإعطاء كل ذي حق حقه وهي المقومات والمتطلبات اللازمة لتحقيق السلام والاستقرار ونبذ العنف، والتي نصّ عليها كذلك دستور مملكة البحرين وميثاق العمل الوطني. فهل نمنح العقل فرصة لتحقيق الآمال وتفعيل هذه المبادئ وترجمتها إلى واقع ملموس؟
إقرأ أيضا لـ "عبدالحسن بوحسين"العدد 3284 - السبت 03 سبتمبر 2011م الموافق 04 شوال 1432هـ
مقال رائع...
مقال رائع وشامل للأحداث الاخيرة في المملكة وتكهنات نرجو إحتوائها من قبل أشراف الوطن الحبيب على المدى القصير!!!!.
وطنى الغالى
اللهم حقق لشعب البحرين الامن والامان ووحد كلمتهم وجمع شملهم
لو لا الامل لنفرط الفؤاد
نتمنى حقيقة ان يترجم هذا التسامح والعدل والعطاء على ارض الواقع ويفهمه الجميع لنعيش بكرامه اللهم احفظ البحرين ا