في «عين لندن» مجموعة القصص القصيرة للكاتب والروائي العراقي فاتح عبدالسلام سمة عامة تجمع بين القدرة على السرد السهل المتدفق والسخرية المضحكة حيناً والمحزنة حيناً آخر وإن تركت الخاتمة دون تحديد في بعض الأوقات.
ولدى عبدالسلام في بعض قصصه وفي واحدة منها خصوصاً غوص في النفس الإنسانية وخروج منها بالمفجع والمحزن وبصور عن مرارة التجربة الإنسانية وفعل الزمن وأنشطة بشرية على رأسها الحروب.
تألفت المجموعة من سبع قصص توزعت على 107 صفحات متوسطة القطع وصدرت عن «الدار العربية للعلوم ناشرون» في بيروت. ولعل قصة «الناقوس الذي لا يقرع أيام الآحاد» أكثر قصص المجموعة تأثيراً في النفس وتعبيراً عن كثير من العميق في النفس البشرية ذلك العميق الذي يراوح بين مر الزمن وفقد من نحب إما لابتعاد نهائي أو لبعد يجعلنا نخاف من البعد النهائي.
إنها قصة الحياة والموت والحرب والعمر الطويل وانتظار الأحبة خلاله. مرة أخرى تظهر قدرة على الوصف الشيق وعلى الحوار السهل المتتابع المعبر عن أفكار قد لا تكون دائماً «فلسفية»؛ بل من عمق التجارب عند الإنسان تورد دون تفلسف وأحياناً قليلة بقليل منها.
وفوق كل ذلك هناك قدرة على إجادة «الثرثرة» الظريفة. القصة كسائر القصص تجري في لندن أو يجري فيها القسم الغالب من بعض القصص. إننا هنا إزاء اثنين رجل وامرأة في حديقة عامة وهما يحتفلان بمناسبة ستتكشف لاحقاً «وضعا قالب الكيك الصغير بينهما على المصطبة الخشبية. وتهادت إليهما ثلاث بطات خرجن من ساقية تحاذي حديقة كبيرة تتوسط الحي السكني الذي يبدو مثل مكعبات ذات نتوءات صغيرة غاطسة في بحر من الأبنية السكنية. كان ذلك الضحى الانجليزي مثقلاً برطوبة نهاية الخريف».
قالت: «كأنهن شممن رائحة الحلوى» نظر توماس إلى البطات ولم يقل شيئاً ... ضحكت ثانية: «أنت وأنا من جيل واحد نحن جيلنا لا يقاس بالسنوات ولكن بالأحداث... «هز توماس رأسه واكتست كلماته بأسى قديم «ربما هذا الجيل أكبر منا عمراً إذن. في تسع سنوات أرسلوا ابني إلى الحرب مرتين... فرحت بعودته من العراق وأرسلوه بعد أسابيع إلى أفغانستان... سيعود إليك سالماً ..لا تقلق ..ألم تكن ذات يوم جندياً؟» يجيبها «أجل كنت جندياً على أرضي. إنهم هناك في بلاد غريبة». نتابع القراءة «تململت شارلوت على المصطبة لتفسح مجالاً لرجل في الثمانين كان يتقدم متماهلاً وهو يتأبط صحيفته المفضلة وبيده عكازه الخشبي الأسود... «بعد دعوتهما جاك إلى تناول شيء من الكيك معهما وبعد حديث بين الثلاثة بمناسبة عيد ميلاد توماس تسأل شارلوت «توماس لم تحدثنا عن رسالة ابنك الأسبوع الماضي إليك؟ انفرجت تقطيبة توماس وكأن روحاً دبت في تمثال حجري...» وخلال حديث الثلاثة وفجأة «تمزقت سكينة الخضرة بصوت ناقوس الكنيسة القريبة من السور الخشبي للحديقة. «وكأن الزمن توقف في وجه توماس فتعطلت عيناه وشفتاه ونزلت غضون جبينه إلى وجهه كله. تناول عصاه ... ووقف لحظة ساهماً في نقطة بعيدة في الأفق الملتحم بالشجر الكثيف. كانت دقات الناقوس لاتزال تضرب بصداها الحزين المكان كله. مرت في السماء طيور شاردة من الصوت المفاجيء. لم ينطق توماس بكلمة وهو ينطلق بخطواته القصيرة... في اتجاه الكنيسة. تابعته عينا شارلوت والحزن يخيم على وجهها ... وقالت «هذه حاله منذ سنوات كلما قرع الناقوس في غير أوقات صلاة الأحد يهرع إلى الكنيسة يحمل همه الصامت.
قال جاك: «يتوقع أنهم جاؤوا بنعش ابنه؟» أردفت شارلوت «على رغم أنه يعلم أنهم لا يأتون بالنعوش هكذا فجأة إلى الكنائس قبل إبلاغ أهاليهم»... نهضت شارلوت من المصطبة. كان توماس قد اختفى أثره من جانب الكنيسة. غير أن ضرب الناقوس عاد من جديد وبصوت أعلى هذه المرة. «سوت شارلوت قبعتها الريشية واتجهت نحو الكنيسة. وبعد دقيقة قام جاك وبدا كأنه آخر رجل يمكن أن يمر على هذا المكان الساكن.
تناول عصاه وترك صحيفته على المصطبة ولحق بها.» في القصة الأولى «عين لندن» التي أعطت اسمها للمجموعة رحلة في تلك العين وهو اسم تلك الآلة التي تشبه الناعورة والتي تحمل الناس إلى الأعالي في رحلات يشرفون فيها على المدينة من عل.
فتاة وشاب عربي وهو مهندس كان يحدث الفتاة عن أنه يستطيع نسف نصف مباني لندن لإعادة بنائها بشكل أنسب. أم الفتاة نتيجة الرعب من الإرهاب والإرهابيين تبلغ الشرطة فيتجمع حشد من رجالها. الفتاة معجبة بالشاب. أما نتيجة الأمر فتركها الكاتب للقارئ على طريقة «المعنى في قلب الشاعر.» قصة «الشظية لاتزال في ساقي» التي يجعل عنوانها أذن القارئ تطن متذكرة «الرصاصة لاتزال في جيبي». تحمل قدرة على الحوار السريع الذي يكشف عن جوانب من الأحداث وفيها كثير من «الفرضيات» الفكرية والنفسية غير المقنعة. قصة «ماراثون المسافات القصيرة» تحمل أيضاً «فرضيات» في علم النفس و»الواقع» لكنها في الحالين لا تبدو «واقعية.» قصة «لحظة الاستنساخ البشري» ذكريات وناس والتباسات تجري بين مكانين : العراق ولندن. وفي قصة «جنية الساعة الحادية عشرة» إظهار لمتى يبقى الإنسان أسيراً لمخاوفه وأوهامه ومعتقداته الراسخة حتى أنه «يقولب» الواقع المختلف لينسجم معها
العدد 3284 - السبت 03 سبتمبر 2011م الموافق 04 شوال 1432هـ