تحدثتُ قبل ثلاثة أيام عن نموذجين من الولاء، ما بين نظامَيْ معمّر القذافي وصدَّام حسين. تساءلت عن السبب في أن الأول لم يحظَ بمنتسبين مواليين له في أزمته، بينما استطاع الثاني أن ينال ذلك. بعد سَرْدٍ أوَّلي، قلت فيه بأن المشهد المذكور به خمسٌ من الصور التي من شأنها أن تفسِّر لنا ما حدث وهي: الصورة التاريخية، الصورة الطبقية، الصورة الحزبية، الصورة الجغرافية، والصورة الديموغرافية. اليوم أتحدث عنها بإسهاب، وأبدؤها بالصورة التاريخية:
ضمن هذه الصورة، تتشابه ليبيا مع العراق من حيث التاريخ الضارب في الجذور. فالأولى عَرَفت السُّكنى منذ آلاف السنين. وكانت جوارًا للحضارة الإغريقية وللفينيقيين. وكان جزءًا من فراعنة أرض مصر العظام ليبيون، حكموها لمدة قرنين من الزمن، ووحّدوا البلاد، وقوّوا العباد حتى دخلوا فلسطين، وكذلك الحال بالنسبة للإمبراطورية الرومانية، حيث حَكَمها الإمبراطور سيبتيموس سيفيروس وهو ذو أصول ليبية. ثم حَكَمَها الوندال والبيزنطيون، ثم المسلمون عندما جاؤوها فاتحين، وتناوبَ على أحداثها الأغالبة والزيريون من الفاطميين.
أما العراق، فقد عرفت أرضه الاستيطان وبناء المدن منذ الألفية الرابعة ق.م. وظهرت فيه الكتابة المسمارية حتى انتشرت ثقافتها هنا وهناك. ثم جاءه الأكاديون من الأقوام السامية الآرامية ووحّدوا العراق، وثبَّتوا الحكم فيه، حتى وصل نفوذهم وسلطانهم إلى سوريا وعيلام وفلسطين والأناضول والخليج وفارس. وبُنِيَت قوائم الاقتصاد والتجارة حينها حتى غدا العراق ممرًا مهمًا لمرور القوافل، واصطبغت أرضه بإفاضات حمورابي والبابليين، ثم بالفتح الإسلامي لاحقًا، حيث استقرَّت فيه عاصمة الخلافة مئات السنين، وانطلق منه الفتح.
عقدة الموضوع بين البلدين كانت في القطع أو الوصل بين كلّ ذلك التاريخ وحاضرهما. فالقذافي لم يُفلِح في وصل ليبيا بتاريخها، بل إنه مارَسَ قطعًا غير عادي مع الماضي، مُستعيضًا بدلاً منه بمفهوم بائس عن الدولة والأمة، تجلَّى في نظريته للحكم، والتي دوّنها في الكتاب الأخضر، والهَوَس بالمؤتمرات الشعبية. وفي أفضل أحواله، كان يَصِل تاريخ ليبيا وأحداثها التاريخية الكبرى بالضربة الجوية الأميركية على منزله في أبريل/ نيسان من العام 1986م ومقتل ابنته بالتبنِّي، أو بحديث عام عن الاستعمار والرجعيّة العربية، وبالتالي لم يُحيِ في منتسبي نظامه شعورًا بالانتماء الحقيقي بالنظام الذي يعملون فيه، أو تقديمه على أنه امتداد واقع لذلك التاريخ، وبالتالي نشأ ما يُمكن أن نسمِّيه بالانفصال النفسي بينهم وبينه، أدى لاحقًا لأن ينشأ لديهم فراغًا قوميًا لدرجة أنهم باتوا ينظرون إلى نظام القذافي على أنه نظام طارئ على التاريخ الليبي، لا يستحق أن يُدافَع عنه.
في حالة نظام البعث، فإن الأمر مُختلف كُليًا. صحيح بأنه كانت هناك عبثيَّة سياسية تورَّط فيها صدَّام حسين أثناء حكمه الحديدي للعراق، سواء بالحرب مع إيران (1980 - 1988)، أو بغزو الكويت (1990) والتي أهلكت الحرث والنسل، إلاَّ أنه كان قادرًا على إتمام حالة الوصل بين نظامه وتاريخ العراق. كان صدَّام قد مارَس سياسة بعثيَّة أغراريّة متطرفة مثلما فعل الخمير الحمر في كموديا في تطبيقهم للشيوعية، فهندَس المجتمع العراقي بطريقة خالَفَت طبيعته، سواء العشائريّة منها أو الدينية، مُذوبًا كل ذلك الإرث التاريخي والاجتماعي في بوتقة حزبية، أمنية وعلمانية مُحكَمَة، تسوِّرها هالة من التاريخ العراقي القديم، ومحاولاً جعل النظام السياسي انعكاسًا لذلك التاريخ، وهو ما ظهر جليًا في دفع السلطة البعثية إلى ترسيخ مفهوم يقول بأن تاريخ الأمة العربية لا يبدأ من الإسلام، وإنما بالحضارات القديمة التي ظهرت في هذه المنطقة وإن كانت بصنوف مختلفة، ومنها العراق.
لقد انسحب ذلك التعميم الجبري حتى على موضوع ترميز الأمكنة. فسُمِّيت مُدنٌ باسم أكد وسومر وبابل، وتمّ التنذر بالملِك السومري أوتو هيجال. ومن الناحية القومية القريبة أطلِق اسم جمال عبدالناصر ومُسمَّى فلسطين وحيفا وعَدَن ودمشق على الساحات العامة والمدن والشوارع الرئيسية، كترسيخ لانتماء عربي قومي. أما في الخدمات الفندقية فترى ذات المنحى مُتعزِّز إلى أبعد الحدود، فتلحظ فنادق كشيراتون عشتار أو بابل، أو الرشيد أو ميرديان فلسطين، بل انسحب ذلك حتى على أسماء الناس العاديين في المجتمع.
عندما تتفحَّص أدب العقود الثلاثة التي كان البعث فيها يحكم العراق، ترى أن تلك السياسة اجتاحت حتى الحراك الثقافي داخل البلد وإن تم تطبيقه بطريقة فرْضِيَّة، فكانت الأعمال المسرحية والإصدارات الأدبية تحاكي ذلك الشعور فكانت مسرحية «كلكامش»، وروايات «بذور النار» و «من يرث الفردوس» من ملامح تلك الحقبة. فكان العراق أشبه بمن يسير بسرعة فائقة على سكة حديد من دون توقف، لكي لا يُعطي أدنى فرصة لا للمراجعة ولا لتغيير مسار البلد، وبالتالي الاستغراق في هذا الجو القومي، والالتصاق بالنظام السياسي الحاكم.
الغريب هو أن البعث قادَ حركته القومية المتشددة تلك، صاهِرًا كلّ المكونات العِرقيّة (فضلاً عن التوجهات السياسية) في صلب الوعاء القومي العربي رغم الفروق الواضحة في الأصلاب، ولم يكن ذلك المسعى ليتحقق لولا القبضة الأمنية، والغطاء العلماني المتشدد التي مارسه البعث، وبالخصوص في عقدَيْ السبيعينيات والثمانينيات، وكأنه يتمثل بحركة ريغاس (1760 - 1798) القومية البلقانية، أو حتى بالثورات في أميركا اللاتينية التي كانت تضمّ جزءًا رئيسيًا من المتفرنسين، وبدعوات التمرد لـ كولوكوترون ذي النزعة القومية الهيلينية.
خلاصة القول هو أن مسألة الوصل/ القطع ما بين النظام السياسي والتاريخ تلعب دورًا محوريًا في مسألة الانتماء السياسي. بالتأكيد فإن هذه المسألة التاريخية ليست كلّ السبب، إلاَّ أنها تبقى أمرًا مهمًا في تكوين الولاءات، وخصوصًا أنها تعيد صياغة الولاء بطريقة نفسية جاعلة منه صنوًا للضمير، ولضريبة الانتماء للتاريخ القومي أو الوطني، حتى ولو كان النظام السياسي شموليًا وقمعيًا
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3281 - الأربعاء 31 أغسطس 2011م الموافق 01 شوال 1432هـ