ثمة شعوب تمارس حياتها من المهد إلى اللحد دفعة واحدة؛ بمعنى ألا انقطاع جماعياً يحول دون ممارسة تلك الحياة بإبداعاتها وضوابطها في الوقت نفسه؛ بسبب منغصات وتجاوزات، إما بسبب الحروب الطارئة، وإما بسبب أنظمة يمثل خطر ممارساتها أضعاف الخطر والدمار الناتج عن تلك الحروب.
لا شعب في الدنيا بمنأى عن تلك المنغصات. ثم إن الحياة لا يمكن لها أن تكون حياة إن لم تتخللها منعطفات وابتلاءات؛ ولكنها منعطفات وابتلاءات تشحذ الهمم والأرواح وتمنحها قوة وإرادة وتصميماً على حماية تلك الحياة. وثمة شعوب اليوم تموت بالتقسيط غير المريح. ثم إنه لا يوجد تقسيط مريح. التقسيط عقد لرهن إرادتك في الخيار. وقتها لا خيار لك. عقد ملكية توقعه بخيارك. عقد امتلاكك أو امتلاك جزء منك. عقد ملكيتك لطرف آخر؛ بغض النظر عن موضوع القسط وتفاصيله. شعوب تذهب في حياتها إلى موتها في واقع الأمر بنظام التقسيط. لا تحتاج إلى حروب وأسلحة دمار شامل، وفي أحسن الأحوال، أسلحة تقليدية تؤخر آجالها وتوفر لها بضع ساعات أو أيام أو شهور لأخذ حصتها المرتبكة من الحياة ريثما تغادر العالم محفوفة بفائض من المجد والكرامة؛ أو الوحشة والخزي.
والذين يموتون تحت رحمة الأنظمة بالتقسيط الممل يشيخون وهم في طفولتهم؛ قبل أن يبلغوا الحلم. تجربة الموت لدى كثير من شعوب الأرض لم تدع لهم مجالاً كي يعيشوا طفولتهم كما يجب، ولم تدع لشبابهم مجالاً كي يفجروا طاقاتهم الابداعية ويمرحوا في الحياة كما يجب، ولم تدع لشيوخهم مجالاً كي يراكموا حكمتهم وتأملهم وانشغالهم بدرس تلك الحياة. الحياة المعافاة من الانتهاك في صوره المتعددة وشواهده الماثلة اليوم.
والذين من دون أحلام ومن دون أهداف ومن دون رؤى، هم أيضاً يموتون بالتقسيط غير المريح. تقسيط معناهم وتأثيرهم؛ بل وضعهم على رف الفرجة. فرجة الحركة من حولهم. فرجتهم على العالم وهو يتمدد ويتطاول ويذهب عميقاً في تراكم الأثر والإضافة. فرجتهم على العالم وشعوبه وهي تتمتع بإنسانيتها في أسمى وأروع الصور، وعلى الحقوق وهي تظلل الخلق خارج الحدود التي ينتمون إليها؛ تكريساً للكرامة، وتثبيتاً لتلك القيم، ودفاعاً بشراسة لا تعرف التهاون والفتور عن كل كائن متحرك وحتى الأشياء؛ فيما هي في جزئها المعتم والكالح لندرة الشمس والضوء وانعدام الهامش تكاد تكون رديفة الكساح والشلل الذي يصيب مفاصلها وكل مرفق من مرافق تحركها ووجودها قبل أعضائها التي باتت فائضة وعديمة الجدوى. لسان لا ينطق أمام هول الفظاعات، وخد يراد له أن يكون موضوعاً للصفع وله احتياط أيسر يرفده، يدار متى ما اقتضى وتطلب الحال ذلك. كيف لشعوب بذلك الواقع وتلك المواصفات أن تحيا حياتها دفعة واحدة، من دون عقود رهن لآدميتها وكرامتها؟ وكيف لها ألا تموت بفوضى التقسيط غير المريح مادامت خارج حركة الحياة، وفي الزوايا المعتمة من التهميش وما يتبع ذلك التهميش من إقصاء هو بمثابة قبر مشرع على وهْم الحياة؟
الحياة اليوم ضمن متغيرات ماثلة تمردت على كلاسيكيتها في الحقوق. لم يعد همُّ الإنسان اليوم؛ مع تطور الوعي بالحقوق والواجبات ورصد النظم والشرائع الدولية لحركة تعاطي النظم مع شعوبها، بطنه وقيمة مكاسب يحققها وباشتراطات ومداخل ومخارج لها أول وليس لها آخر. ولم يعد يهمه أن يأوي إلى بيت يملكه أو لا يملكه إن كان من دون كرامة. هذه الوصفة المعبأة لم تعد لها قيمة اليوم في الوعي الذاهب في تراكمه وامتداده؛ بل هي التفاف على الجوهر من الحقوق. التفاف على حقه في القبول مثل حقه في الرفض؛ وحقه في مراقبة أداء الذين يسوسونه ويمثلونه؛ وحقه في الوقوف على التوزيع العادل للثروات؛ لا متفرجاً على النهب من دون أن يملك حق فتح فمه احتجاجاً وكشفاً وتعرية وفضحاً ومساءلة لكل ذلك، وحقه في أن ينعم بأمانه الشخصي في الشارع كما في البيت تعبيراً عن حقه في أن يكون بشراً لا شيئاً كأي شيء يمكن تحريكه ومصادرته وعرضه في مزادات بالجملة. حين لا يحدث ذلك، يمر الكائن البشري بكل مراحل الموت بالتقسيط المذلة والمرهقة والمهمشة لقيمته وكرامته، وحين يحدث ذلك، يعيش حياته دفعة واحدة؛ وإن عمَّر ألف سنة؛ سيشعر بتفاصيلها ودقائقها، حلاوتها ومرارتها، خيباتها ونجاحاتها، وكل ذلك دليل سعيه وتحركه وتفاعله وتعاطيه مع حركة الوجود من حوله
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3281 - الأربعاء 31 أغسطس 2011م الموافق 01 شوال 1432هـ
مقال رائع ....
مقال رائع للكاتب المبدع ومثال ينطبق تماما على أرض الواقع المرير والغريب أمره -....