تعقيباً على مقال رئيس التحرير منصور الجمري «الربيع العربي يشمل سورية والبحرين» المنشور بتاريخ 21 أغسطس/آب 2011، فإنه وعلى رغم الانتقائية وازدواجية الموقف؛ فإن الشعوب العربية انتفضت على العبودية والإذلال، وفتحت أبواب الأمل للنهوض والمجتمعات العربية تدخل مرحلة تاريخية جديدة تتسم بالتحولات في البُنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية.
والمنطق يقول انه لا يمكن عزل أي مجتمع عربي اليوم عما يحدث في المجتمعات الأخرى، لا يمكن عزله عن مجريات التحولات العالمية المتعلقة بممارسة الديمقراطية الحقة وبمفاهيم الحريات وحقوق الإنسان وتداول السلطة وإصلاح الدساتير وإعادة كتابتها. إنها ولادة عسيرة، مخاضها مؤلم، بل ومكلف، لكنها تفرض نفسها - أي عملية التحولات والتغيير- وعقارب الساعة لا ترجع إلى الوراء.
السؤال المهم المستوجب إثارته؛ يتمحور حول قدرة المجتمعات المحلية وقواها السياسية والاجتماعية ومؤسساتها على تعزيز الممارسة الديمقراطية، بصفتها حقّاً وضرورة تستند إلى مرتكزات قانونية واقتصادية وثقافية من بينها ترسيخ مبدأ المواطنة والسلم الأهلي والتسامح والمساواة والعدالة بين المواطنين. بمعنى تجسيد التعددية بمفهومها العصري؛ فلا تنمية اجتماعية في غياب العدالة، ولا إصلاح في ظل الفساد وغياب التعددية السياسية والمشاركة الشعبية والقوانين الانتخابية العادلة والحريات العامة وحرية التعبير عن الرأي. كل هذه وتلك وغيرها تمثل سرّ وأساس نجاح أي ديمقراطية في العالم. إنها التحديات للولوج في عصر الحداثة وللبقاء وتسوية الصراعات دونها تخرب المجتمعات.
وكما أوضح الكاتب عبدالنبي العكري في مقاله الذي نشر في 21 أغسطس 2011 بعنوان: «الربيع العربي بين الآمال والمخاطر»، وكما حلل معه الراصدون والمحللون؛ فإن الانتفاضات العربية مثلت الرد العميق على أحوال الاستبداد وبتر الحريات وهدر كرامة الإنسان العربي ونتف حرياته السياسية، فضلاً عن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي تصدّرها البؤس والفقر والبطالة والتهميش السياسي، ولاسيما والشعارات التي عبرت عنها أصوات الجماهير الهادرة لم تقتصر على شعارات مطلبية أو تتصل بالحريات السياسية فقط؛ إنما تجاوزت ولامست قضية مصير الأنظمة العربية الحاكمة.
لقد كشفت الانتفاضات العربية عن حجم اهتراء وضعف عملية الإصلاح وفشل تحقيق التنمية المستدامة بسبب استشراء الفساد، بعد تحوُّل السلطة إلى مصدر من مصادر الثروة والإثراء على حساب الشعوب وحقوقها بالحصول على الامتيازات والمغانم التي عززت ولا تزال مواقع قوى الموالاة، إذ تحوّلت الدولة العربية ومؤسساتها إلى أملاك خاصة لحكامها.
الانتفاضات كانت صوت لـ (150) مليون عربي يعيشون تحت خط الفقر بحسب التقارير الدولية، وصرخة 13 في المئة آخرين منهم يعانون من البطالة. الربيع العربي طرح قضايا هي بحد ذاتها تمثل معضلات وأخطاراً تهدد بنية مجتمعاتنا العربية، منها التعاطي المشوّه للممارسة الديمقراطية المبتورة ومؤسساتها المشوهة، وإثارة العصبيات والنعرات الطائفية والمذهبية والاثنية والقبلية، وتفجير تناقضاتها وتسخيرها كأحد أساليب الثورة المضادة للإبقاء على الوضع القائم والقبول به، بل وتأزيمه من النواحي الأمنية والاقتصادية والاجتماعية وإشاعة الفوضى وفقدان الأمن والإفقار، كي تشعر الشعوب العربية بحاجتها الملحة إلى الوضع الدكتاتوري والرضا به كقدَرٍ مقدّرٍ لا مفر منه.
أما في الإشارة المهمة إلى أن الأنظمة العربية وفي مقدمتها النظام التونسي الأشهر في قدراته المخابراتية، والتي اطمأنت إلى الحكم المديد وإخضاع شعوبها، لم تكن كما الاستخبارات الغربية التي ترصد الوضع العربي بدقة، ولا مراكز الدراسات المتخصصة، ولا قوى المعارضة أيضاً تتوقع هذا النهوض الجماهيري والاستجابة التلقائية لدعوة مجموعة من الشباب عبر وسائط التواصل الاجتماعي (الفيسبوك والتويتر والمواقع الإلكترونية)... أقول من المفيد أيضاً الإشارة، إلى أن السياسات القمعية المتواصلة قد أضعفت قدرات المعارضات التقليدية، فضلاً عن احتواء الأنظمة لقدرات قوى معارضة أخرى مضاف إليهم شرائح واسعة من المثقفين والساسة عبر دمجهم في أجهزة الدولة وتوفير المغريات المادية والوظائف والأسفار والتعيينات وعملية النفخ فيهم إعلاميّاً، وجعلهم ديكوراً للأنظمة وأداةً طيّعةً للتعبير عنها وعن سياساتها، ما أثر بهذا القدر أو ذاك من ناحية تفاعلها مع الشارع العربي وغياب قيادات قادرة على قيادة المرحلة الانتقالية.
ما يمكن الخلاصة له أيضاً إضافة إلى سلمية الربيع العربي نسبيّاً؛ ما تميزت به هذه الانتفاضات من كسر حاجز الخوف، وهز الرمزية الأبوية لأنظمة الحكم العربية. وهذا لا يمنع من تشديد القول على وجود نواقص تتمثل في ضبابية امتلاك قوى الشارع برامج سياسية بديلة تطرحها، كذا بلورة رؤية أكثر جذرية تبين أهمية العمل الحزبي السياسي بمنظوره الحداثي في عملية التغيير، وأعني هنا العمل الحزبي (لا السابق التقليدي القائم على العلاقات الأبوية والمركزية في ظل غياب ممارسات ديمقراطية وشفافة أو بقصورها المعرفي والتزامها وصمودها في الشارع مع الجماهير أو بفوقيتها عليهم)، إضافةً إلى استشعار أهمية دور مؤسسات المجتمع المدني في عملية التغيير وإعادة البناء، إذ ثبت أن قسماً كبيراً منها في المجتمعات العربية يعاني من انعدام الاستقلالية ومن الخواء والشللية والفوقية والمصالح الذاتية وحب البروز والفساد في بعضها والارتهان للأجنبي بحسب المصالح المادية في بعضها الآخر...الخ، فمن الاستحالة إنجاز الإصلاح في ظل غياب الجدية والرؤية السياسية عند هذه المؤسسات. رؤية تتصدرها مسألة الدستور (أبو القوانين) العادل والحقاني الذي يعبر عن جوهر مشاريع الإصلاح، إضافةً إلى إصلاح الاقتصاد والبُنى الاجتماعية في ارتكازها على عدم إلغاء الآخر والقبول به كمختلف والتعايش معه
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 3280 - الثلثاء 30 أغسطس 2011م الموافق 30 رمضان 1432هـ