تنفسَت بعض الأنظمة العربية القمعيّة الصعداء لما جرى في بريطانيا من أحداث شغب طيلة أربعة أيام. بالتأكيد، فإن ما هي عليه لا يعدو كونه مُركبًا جديدًا من الغباء والبله، مع محاولة بائسة منهم لكسب الشرعية لإجراءاتها الظالِمة ضد المتظاهرين لديها، عبر مقاربته لما تفعله لندن بحق شباب توتنهام ومانشستر وليفربول وبرمنغهام الذين عاثوا في مرافق المدينة ومحلاتها التجارية فسادًا، ولم يكونوا يرفعون أيَّ شعار يُنادي لا بإسقاط النظام ولا بتعديل الدستور، ولا المطالبة بالعدالة السياسية، ولا بمكافحة الفساد.
يُذكرني ذلك الرقص من هذه الأنظمة القمعية لما جرى في عاصمة الضباب، بحوار طريف جَرَى بين عراقي وأميركي في بداية التسعينيات بشأن موضوع الحريات الشخصية والسياسية والديمقراطية في بلديهما. قال المواطن الأميركي للمواطن العراقي: نحن في الولايات المتحدة نستطيع أن نشتم الرئيس الأميركي في أي وقت نشاء. ردَّ العراقي: ونحن أيضاً في العراق، نستطيع أن نشتم الرئيس الأميركي في أي وقت نشاء!
هنا يجب أن نتحدث بشيء من الصراحة والوضوح. حسناً، سنقبل بإجراءات هذه الأنظمة تجاه معارضيها، مثلما فعلت وتفعل لندن، ولكن بشرط، وهو أن تقوم بجعل أنظمتها الفاسدة والقمعية شبيهة بالذي هو موجود ومُطبَّق في بريطانيا من نظام إداري رشيق، ومرفق قضائي مستقل، ونظام حكم ديمقراطي يقوم على التعددية والتمثيل الشعبي. بهذا الشكل، يكون الأمر واضحًا، ومتعادلاً في مقاربته، ويجوز فيه ما يُجَوَّز للآخرين أن يفعلوه.
لنبدأ الآن في عملية المقاربة المفترضة. في بريطانيا هناك برلمان يقوم بالوظيفة التشريعية كاملة، كَوْن الإرادة العامة تقضي بألا يصدر أي تشريع إلا عن الشعب، مع إقرار الموازنة وكل الشئون المالية. أما في الدول العربية القمعية فإن البرلمان فيها لا يُشرِّع لوحده، وإنما هناك غرفٌ وسلطات معه أو فوقه تزاحمه التشريع. في بريطانيا، تتشكل الحكومة بأغلبية الفائزين من نواب البرلمان الذين اختارهم الناس، أما في الدول العربية القمعية منها فإن الحكومات تتشكل دون أن يعلم النواب بطبخة تشكيلها، فضلاً عن دراية الناس بها.
في بريطانيا تخضع الحكومة لرقابة البرلمان في كل شاردة وواردة. أما في الدول القمعية فإن الحكومة هي التي تقرِّع البرلمان ولا تسمح له إلا بمراقبة وزرائها المهلهلين الذين يُصرفون كخردة في التشكيلات الوزارية ومفاوضاتها لذر الرماد في العيون، وإذا ما عنفها الغربيون بين الفينة والأخرى. بل إن بعض البرلمانات العربية لا تجيد إلا التصفيق، وفي أحيان أخرى الدفاع عن الحكومة، وكأن الأخيرة مُشكـَّلة منه كأكثرية نيابية، وهنا المضحك. ففي الغرب، حتى ولو شكلت الأغلبية النيابية الحكومة، فلا يعني هذا أنها تكون معفية من المساءلة. أما في أحوال العرب، فإنها وفي كلتا الحالتين لا تكون إلا مُصفـِّقة ومُثنية، ولا تشير إلا بالبنان.
في بريطانيا، رواتب الحاكمين معروفة ومُحدَّدة، وثروات البلد محكومة بالقانون، وهي ثروة وطنية من حق الجميع أن يستفيد منها بالتساوي، أما في بعض دولنا العربية المعنية، فإن الثروة هي مشاع للحاكم وحده، يأخذ منها ما يكفيه ويكفي عياله وأحفاده حتى آخر عمرهم دون أن يُحاسبه أحد، ثم يتفضَّل بالفتات على الناس ويُنازعهم فيه أيضاً. لا يحتاج ذلك إلى تقارير في الشفافية أو الفساد، بل إن ما يُظهره الواقع هو هذا وليس شيئاً غيره.
في بريطانيا ومن خلال قانون عرفي يفهم الفرد حدوده وسلطاته حتى ولو كان في أعلى منصب في الدولة، بعض من تلك القوانين العُرفية مضى عليها أكثر من 300 عام وهو على هذه الحال، دون أن يُدوَّن، ورغم ذلك يتمّ الالتزام به واحترامه جيلاً بعد جيل. أما في الدول العربية القمعية منها فإنه لا العرف ولا القانون المدوَّن يستطيع أن يحد من سلطات المتنفذين، فالقوانين بالنسبة لهم هي مثل بيوت العنكبوت، بإمكانها الإمساك بالذباب الصغير، لكنها تسمح للدبابير بالمرور، كما قال الشاعر والأديب الإنجليزي جوناثان سويفت.
بالتأكيد، ليست بريطانيا أفلاطونية في مدينتها، ولكن الدول القمعية أيضًا ليست أقل من الحكم النيروني الأهوج. لا يُمكن أبدًا أن يتماثل السقيم بالسليم، ولا الجاهل بالعالِم، هذه قاعدة طبيعية. سمعنا من القذافي سابقاً ومن إعلاميين مُدافعين عن نظام الأسد في سورية وفي بُلدان عربية أخرى عن هذا الأمر، وكأنهم ظفِروا بحجَّة دامغة يُلقِمُون أفواه خصومهم بها. إنه فعلاً كلام بحجم الهراء، وقد يُتندَّر به خارج حدود بُلدَانهم في الصحف العالمية، لأنه بحق مُزاح معكوف يتم اللعب به، مع العلم أن الشعوب العربية ليست بهذا الوهن العقلي كي تصدِّق. فالعقل كالمعدة، المهم ما تهضمه لا ما تبتلعه، كما كان يقول الفيلسوف الصيني كونفوشيوس
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3276 - الجمعة 26 أغسطس 2011م الموافق 26 رمضان 1432هـ
العنوان ليس في محله
اخي الكاتب مقلك اكثر من رائع وكذلك المقارنه ولكن اسمح لي ان اقول لك بان العنوان سئ للغايه
خمسة من الأنظمة القمعية سقطوا ( صدام- زين العابدين-علي صالح-حسني مبارك -القذافي ..... ام محمود
والبعض في طريقة للسقوط
ولقد كتب تشارلز مور في صفحة الرأي في الديلي تلغراف تحت عنوان يجب الا نشعر بالذنب عن الدور الذي لعبناه في انهاء حكم القذافي
يقول مور ان القذافي عبر حكمه الذي تجاوز اربعة عقود لم يترك منظمة ارهابية او ارهابيا او متطرفا من وجهة نظر الكاتب الا وقدم له الدعم من الفليبين الى ايرلندا الشمالية
ويضيف سيكون امرا مثيرا للاستغراب ان لم نفرح بزوال ملك ملوك افريقيا فالوضع في ليبيا لم يكن شبيها بمصر او تونس فمنذ البداية كان من الواضح ان المعارضة الليبية غير قادرة على مواجهة القذافي
أعمال الشغب في المدن البريطانية اثبتت ان هناك حكماء وعقلاء يديرون البلد وليس مثل العرب .......... ام محمود
رأينا من خلال خمسة أيام من الشغب في بريطانيا كيف استطاعت الحكومة بقيادة كاميرون احتواء الأزمة والقبض على الخارجين عن القانون بدون سفك الدماء في الشوارع او استخدام قناصة أو انزال دبابات في الشوارع .. حتى اسرائيل خرجت منها مسيرات تطالب بتعديل الأوضاع المعيشية والرواتب والايجارات قدر عدد المتظاهرين بمئات الآلاف ايضا تم التعامل معهم بحضارية ولم تسفك دماؤهم
بعكس الدول القمعية العربية الذين استرخصوا دماء شعوبهم وقتلوهم ونكلوا بهم
وهم ليس باقل من الحكم النيروني والهولاكي البربري الأهوج والدموي
الفرق بين الأنظمة العربية والأنظمة الغربية شاسع جدا مثل المسافة بين الأرض والسماء ..... ام محمود
الآن ومقالك اليوم الجميل والمقارنه التي كتبتها بين أنظمتنا المستبدة و بريطانيا البرلمان والسلطة التشريعية فيه عندنا مسير بالريموت وعندهم له كامل الحرية والاختيار بما فيه الصالح العام ..
كيف تصرف الحكام العرب بالمال العام وقاموا بتحويشه لهم وللعائلة والأصدقاء واشتروا به ما لا يخطر على البال في حين في انجلترا الحاكم له راتب محدد
أمس قرأنا ان القذافي كان عنده مخزون من الطعام والدواء يكفي طرابلس لمدة أعوام .. وعنده مليارات من الذهب ومن الدولارات
مقال واضح ولكن...
مقال واضح ولكن ما زال البعض يعيش بعقلية 5 قرون أو يزيد الى الوراء فكيف لها أن توضح لها ذلك-الرجاء الاجابة على السؤال!!!!.
شكرا للكاتب ال..
شكرا للكاتب المتألق على المقارنة بين أنماط الحكام العربية الاستبدادية والحكام الغربية في ادارة شئون العباد!!!.ولكن نقول ونؤمن بالمقولة"أن الناس دول فانتظر حتى تاتي دولتك"الامام علي(ع)
ناديت حيا
احسنت يا سيدي على ما اجاد قلمك ولكنك قد اسمعت حيا وناديت ولكن لا حياة لمن تنادي
مقالك جميل
مقالك جميل
قصدك ترقص بلا صروال كيف مصرولة
المثل الشعبي المعروف ترقص بلا صروال كيف مصرولة ، صح لولا ؟
شكرا لكم على هذه الموضوعات الغنية بالحكمة والعضة ، وهذا الاسلوب الفني الاصيل الذي يعكس اصالة كاتبه .