العدد 3275 - الخميس 25 أغسطس 2011م الموافق 25 رمضان 1432هـ

عهد مالك الأشتر... دستور وخطة لإنقاذ مصر

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

لمصر في نفس الإمام علي (ع) منزلةٌ خاصة، لا ندري هل زارها أم لا، لكن من يقرأ سيرته يتأكد من هذه المنزلة، التي تتجاوز الناحية العاطفية إلى أفق حضاري ونظرة استراتيجية بعيدة المدى.

ففي أول عهده بالحكم، أرسل إليها خاصة أصحابه، واستبدل سعد بن قيس بمحمد بن أبي بكر (رض)، ولكن الأحداث المضطربة فيها لم تتحْ له البقاء طويلاً، فدُبّرت له مؤامرة وحوصر وقُتل عن 28 عاماً، وأحرق جثمانه الطاهر في جلد حمار. فلمّا بلغ الخبر أخته عائشة أم المؤمنين (رض) جزعت عليه جزعاً شديداً، وبكاه الإمام بكاءً حاراً، ورثاه بقوله: «لقد كان إليّ حبيباً وكان لي ربيباً».

لم يترك الإمام مصر لتسقط في فراغ سياسي بعد مقتل محمدٍ، فأرسل إليها مالك الأشتر، أحد أركان حربه ضد جيش الشام، وكان قائداً حازماً شديد البأس، وكان يأمل بتعيينه ضبط وضع هذا الإقليم الذي تمتد وراءه إفريقيا بكل عمقها البشري، وكان معاوية يريد السيطرة عليها، فهي مفتاح هذه القارة الكبرى، ليستقوي بها على الخلافة المركزية. لقد كانت من أهم أقاليم الدولة الإسلامية، ومن شأنها الميل بموازين القوة لصالح هذا الطرف أو ذاك.

ومع إرسال مالكٍ إلى مصر، زوّده الإمام برسالةٍ عرفت باسم «عهد الأشتر»، تبدأ ديباجتها بعد البسملة بالقول: «هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها»، فهذه هي الخطوط العامة لسياسة الدولة: تنظيم الموارد المالية، وحماية الأمن القومي، واستصلاح العباد والبلاد.

الرسالة رغم طابعها الديني وما تضمنته من نصائح وتوجيهات أخلاقية، إلا أنها تمثل دستوراً سياسياً جديداً لبلدٍ خارج من تحت الركام. وقد شهدت مصر في السنوات السابقة اضطرابات داخلية وحركات احتجاج، وخرج منها وفد إلى المدينة المنورة لتقديم شكوى على الوالي، وشارك الوفد المصري لاحقاً إلى جانب وفودٍ من أمصار أخرى في التغيير.

يخاطبه الإمام بقوله: «اعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور، وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك». ويضيف مرسِياً قاعدة الحكم الجديد: «أشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سَبُعاً ضارياً تغتنم أكلهم... يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطِهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك».

الأصل عند عليٍّ العفو، والعقوبة استثناء، يقول: «ولا تندمن على عفو، ولا تبجحن بعقوبة، ولا تسرعن إلى بادرة وجدت منها مندوحة، ولا تقولن إني مؤمّرٌ آمُرُ فأطاع». ويحاول تحصينه من داء الحكام الوبيل: «وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبّهة أو مخيلة فانظر إلى عظم ملك الله فوقك وقدرته منك... فإن ذلك يطامن إليك من طماحك، ويكفّ عنك من غربك، ويفئ إليك بما عزب عنك من عقلك إياك ومساماة الله في عظمته والتشبه به في جبروته، فإن الله يذل كل جبار ويهين كل مختال».

وينتقل إلى معالجة أحد الأمراض المستعصية: «أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوى من رعيتك، فإنك إلا تفعل تظلم». فتقريب الأقارب والأحباب وسيطرة المحسوبيات لا تقود إلى غير الخراب. وينصح بالحرص على تأمين أوسع قاعدة شعبية للحكم: «وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة»، فالرضا العام هو الذي يضمن استقرار الدول، والعامة من الأمة هي «عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء، فليكن صغوك لهم».

أما «المقربون»، أو الحاشية والبطانة، فـ «ليس أحدٌ من الرعية أثقل على الوالي مؤونةً في الرخاء، وأقل معونةً له في البلاء، وأكره للإنصاف، وأسأل بالإلحاف، وأقل شكراً عند الإعطاء، وأبطأ عذراً عند المنع، وأضعف صبراً عند ملمات الدهر، من أهل الخاصة»، فهي طبقةٌ طفيليةٌ تزيد أعباؤها على الحاكم وعلى موازنة الدولة معاً. ولذلك ينصح واليه بقوله: «وليكن أبعد رعيتك منك وأشنؤهم عندك أطلبهم لمعائب الناس، فإن في الناس عيوباً الوالي أحق من سترها... فاستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب ستره من رعيتك. أطلق عن الناس عقدة كل حقد. واقطع عنك سبب كل وتر. وتغابَ عن كل ما لا يَضِحُ لك، ولا تعجلن إلى تصديق ساعٍ فإن الساعي غاشٌ وإن تشبه بالناصحين». هل هناك من تحصين للحكم من المتسلقين والوصوليين أقوى من هذه القواعد؟

ويحدد الإمام للوالي صفات المستشارين، فعليه أن يبعد عنه البخيل لأنه يبعده عن الفضل، وعن الجبن لأنه يضعفه عن اتخاذ القرار، وعن الحريص لأنه يزيّن له الجور. أما الوزراء فشرّهم «من كان للأشرار قبلك وزيراً، ومن شركهم في الآثام، فلا يكونن لك بطانةً... وأنت واجدٌ منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم»، فهناك بدائل نظيفة دائماً، من ذوي الكفاءات الصالحين المخلصين... «فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك».

من أغرب الأمور التي تقف عندها في هذا الدستور، تحديده (ع) لمواصفات الوزراء: «ليكن آثرهم عندك أقولهم بمرّ الحق لك، وأقلهم مساعدةً فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه، واقعاً ذلك من هواك حيث وقع»، فكل رؤساء الدول والحكومات ينتقون وزراء مطيعين ليحقّقوا الانسجام داخل الوزارة، أما عليٌّ فينصح بوزراء ذوي ثقةٍ ومروءة، تمنعهم من مجاراة الأخطاء والسياسات الباطلة. وينصح واليه بقوله: «والصقْ بأهل الورع والصدق، ثم رُضْهُم على أن لا يطروك، ولا يَبْجَحُوك بباطلٍ لم تفعله، فإن كثرة الإطراء تُحدث الزهوة، وتدني من الغِرَّة».

إنه دستورٌ يتضمن خطة إنقاذٍ لبلدٍ خرج لتوِّه من مرحلة غلب فيها الفساد والاستئثار. وقبل أن يدخل الوالي الجديد مصر، تم تدبير عملية اغتيال له بالسمّ على تخوم فلسطين، (عند السويس حالياً)، حتى قيل: «إن لله جنوداً من عسل» كما ذكر الزمخشري والثعالبي. وللحديث تتمة قراءة لهذا العهد التاريخي العظيم

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 3275 - الخميس 25 أغسطس 2011م الموافق 25 رمضان 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 15 | 2:17 م

      مقتطفات من عهد مالك الأشتر ........... ام محمود

      وَ لاَ ‏يَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ فَإِنَّكَ لاَ تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِ اَلتَّافِهِ لِإِحْكَامِكَ اَلْكَثِيرَ ‏اَلْمُهِمَّ فَلاَ تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ وَ لاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ
      وَ تَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لاَ يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ اَلْعُيُونُ وَ تَحْقِرُهُ ‏اَلرِّجَالُ فَفَرِّغْ لِأُولَئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ اَلْخَشْيَةِ وَ اَلتَّوَاضُعِ فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ ‏أُمُورَهُمْ ثُمَّ اِعْمَلْ فِيهِمْ بِالْإِعْذَارِ إِلَى اَللَّهِ سُبَحَانَهُ يَوْمَ تَلْقَاهُ ‏

    • زائر 14 | 2:13 م

      مقتطفات من عهد مالك الشتر ... الذي هو أبو الدساتير ........ ام محمود

      ثُمَّ اَللَّهَ اَللَّهَ فِي اَلطَّبَقَةِ اَلسُّفْلَى مِنَ اَلَّذِينَ لاَ حِيلَةَ لَهُمْ مِنَ ‏اَلْمَسَاكِينِ وَ اَلْمُحْتَاجِينَ وَ أَهْلِ اَلْبُؤْسَى وَ اَلزَّمْنَى فَإِنَّ فِي هَذِهِ ‏اَلطَّبَقَةِ قَانِعاً وَ مُعْتَرّاً وَ اِحْفَظِ لِلَّهِ مَا اِسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ وَ ‏اِجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مَالِكِ وَ قِسْماً مِنْ غَلاَّتِ صَوَافِي اَلْإِسْلاَمِ ‏فِي كُلِّ بَلَدٍ ‏
      فَإِنَّ لِلْأَقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ اَلَّذِي لِلْأَدْنَى وَ كُلٌّ قَدِ اِسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ

    • زائر 13 | 1:34 م

      عهد مالك الشتر أو الرسالة التي كتبها الامام علي ع لوالي مصر بها الدستور المثالي ...... ام محمود

      اغتيل مالك الأشتر بالسم الممزوج بالعسل على يد معاوية بن ابي سفيان في عام 37 هجرية وكان رضوان الله عليه من اصحاب الامام الخلص وأول من بايع أبا الحسن وكان قائد الجناح الأيمن في موقعة الجمل التي قاتل فيها الكفار والخوارج
      وبعد استشهاد الأشتر قال أمير المؤمنين عليه السلام:
      جزى الله مالك خيراً كان عظيما مهابا، أكبر من الجبل، وأشد من الصخر، والله لقد تزلزلت بموته عالم وأمة،وفرح بموته عالم وأمة، فلمثل مالك فلتبكي البواكي
      ومكتوب عند ضريحه إذا أزعجتك ملمة أو كربة ورجوت تنفيسا فناد يا علي

    • عبدالله ميرزا | 9:31 ص

      على عليه السلام هوالعدل

      الامام على عليه السلام صوت العداله الانسانيه كما قال جورج جرداق فى كتابه على صوت العداله الانسانيع ومن خلال رسالة الامير الى مالك او العهد الى مالك فن الامام عليه السلام يرسم عمل الحكومه .
      لو ان الناس اتبعوا وصاى الرسول صلى الله عليه واله وسلم والامام على عليه السلام لازمت بامان عن العثرات
      قال الرسول ص فى على اقضاكم على
      اعلمكم على

    • زائر 10 | 8:05 ص

      السيد العجمي

      السيد العجمي هو ذاته مالك الأشتر

    • زائر 9 | 4:03 ص

      المصلي

      ( ذلك الذى يبشر الله عباده الذين امنوا وعملو الصالحات قل لا اسئلكم عليه أجرا الا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا ان الله غفور شكور ) صدق الله العلي العظيم ونحن في رحاب هذا الشهر الفضيل اتحفتنا سيدنا بموضوع اشرقت به جريدتنا المفضلة الوسط وكم كانت تزهو به في هذا اليوم العظيم لأمام عظيم وكم كانت هذه الذيباجه الجميله والعهدلهذا الرجل الباسل الموالي مالك الأشتر لشعب مصر المحب لأهل بيت الرسالة على مر العصور ليت حكام العرب ان ينهلوا من هذا المعين الصافي لكي ترى شعوبهم الخير

    • زائر 8 | 2:45 ص

      سلمت يداك وعساك على القوّة دوم سيدنا

      تلك والله كلمات من ذهبت لو عرف الناس قيمتها وطبقوها لعاشوا في خير ولكن الناس أعداء ما جهلوا
      والإمام الوصي ثمرة مجهولة لدى المسلمين لم يعرفوا
      قدره ولا مكانته لذلك تخبطت الأمة بعده أيما تخبط
      ولا زلنا إلى الآن ندفع ثمن تخلفنا عن نهجه وطريقه الذي رسمه واختطه للمسلمين بل للناس كافة
      وا أسفاه على حيدرة الزكي فقدته الأمة وفي صدره علوم جمة لم تكن الأمة مهيئة لتلقيها بل كانت تسخر منها أحيانا
      الأمم ترتفع بعظمائها وترقى باتباعها إياهم

    • زائر 7 | 1:01 ص

      عدل السماء

      لنفكر ونتدبر بحكم السماء وعدلها فلم ترون انزه من حكم علي (ع) وكيف لا وهو تلميذ الرسول (ص)...........

    • زائر 6 | 11:44 م

      عبد علي البصري

      مرقد مالك الأشتر النخعي
      من القاهرة يسلك السائق طريق ( عين شمس ) ومنها يقصد ( المرج ) ومنها إلى ( القلج ) ، وهو واقع على بعد 3 كم في طريق الجبل الأصفر ، وهناك مسجد يسمى ( بمسجد سيدي العجمي ) وعلى اليمين بستان على بابه ماء سبيل كتب إعلاه : ( هذا قبر مالك الأشتر ) والقبر داخل البستان ، والبستان لايزال ملكاً خاصاً لبعض الناس الذين يقطنون تلك المنطقة . ويقال انه مات مسموما . في عهد الامام علي فقال فيه علي كان لي كما كنت لرسول الله

    • زائر 3 | 10:08 م

      التاريخ وما أدراك ماالتاريخ ....!!!

      أسئلة تحتاج إلى جواب : من قتل محمد بن أبي بكر و أحرق جثته في جيفة حمار ؟ من قال : إن لله جنودا من عسل .. بعد حادثة إغتيال مالك الأشتر ؟ الجواب موجود في صفحات التاريخ ... ولكن التعصب الأعمي يغض الطرف عن محاسبة من فعل هذا العمل الشنيع .... لأنه الملك ولو قاتلني ولدي لأخذت الذي فيه عيناه .... كما يقول أحد خلفاء المسلمين في الدولة العباسية ..... هكذا السياسة فالسياسي الصرف لايعرف إلا الحفاظ على كرسي الحكم و لو قتل جميع رعيته و الأخوة و الأبناء ولك في التاريخ والسير الكثير من المصاديق و الأسماء

    • زائر 2 | 10:04 م

      أشكرك من صميم قلبي

      سيدنا الفاضل أشكرك من صميم قلبي على هذا الموضوع الرائع و على تحقيق رغبتي بإفراد حلقات تتعلق بعهد علي (ع) لمالك الأشتر (رض).

    • زائر 1 | 9:53 م

      غريب الرياض

      عدالة الامام علي لا يقوى عليها الا المؤمنون. و مااتوقع ان اغلب البشر بيتبعها, الاكيد انها ستحارب لانها تنهي النفوذ و الفساد, و بها تنفد اموال كبار القوم من قلة النهب و السلب للمال العام و الغبن و الاحتكار و ...
      سلام الله عليك يا امير المؤمنين و ابن عم النبي ص

اقرأ ايضاً