إن هذه المادة محكومة بالنص الدستوري الصريح الذي يخول مجلس النواب سلطة إصدار لائحته الداخلية بقانون. لكن السلطة التنفيذية انفردت، او بالأحرى استبدت، بسلطة التشريع عن طريق اصدار اللائحة الداخلية لمجلس النواب - اثناء غيابه - بمرسوم بقانون لا يخضع لحكم المادة 38 من الدستور. أما القول إن السلطة التنفيذية هي «السلطة التشريعية الحقيقية المخولة اصدار التشريعات بمراسيم بقوانين»، على رغم عدم خضوع هذه المراسيم بقوانين لحكم المادة 38 من الدستور، وذلك خلال فترة غياب الحياة البرلمانية من الناحية الواقعية، فان هذا القول المرسل يضفي الشرعية الدستورية على ما يمكن ان يسمى بالاستبداد التشريعي من قبل السلطة التنفيذية. فهل يمكن القول إذاً ان النص الدستوري على ان تصدر اللائحة الداخلية بقانون، هو نص لا قيمة له ويمكن تجاوزه واغفاله؟ ثم ان الدستور الذي حدد حالتين لاصدار المراسيم بقوانين، وفقاً لحكم المادة 38 من الدستور، لم يحدد حكم الحالة الثالثة المسماة بحالة «غياب الحياة البرلمانية من الناحية الواقعية» التي يجوز خلالها للسلطة التنفيذية ان تصدر مراسيم لها قوة القانون ومن دون ان تكون هذه المراسيم خاضعة لحكم المادة 38 من الدستور. كذلك، يمكن القول، كما أسلفنا، ان حالة ما سمي «بغياب الحياة البرلمانية من الناحية الواقعية» هي من وضع السلطة التنفيذية نفسها التي أوجدت هذه الحالة، عن قصد، وأوقفت بالتالي ممارسة المجلس الوطني الحالي سلطته التشريعية التي ينص عليها الدستور، الى تاريخ لاحق بعيد عن تاريخ العمل باحكام هذا الدستور. بينما لو اجريت الانتخابات لمجلس النواب في وقت لاحق لتاريخ العمل بالدستور او متزامن معه، لكان قد عقد اول اجتماع للمجلس الوطني بتاريخ متقارب لتاريخ العمل بالدستور، ولما وجدت بالتالي، حالة «غياب الحياة البرلمانية من الناحية الواقعية» التي تشير اليها كل من المعقبة والمذكرة التفسيرية للدستور.
سابعاً: أما القول انه من غير الممكن لمجلس النواب ان يتبنى لائحة داخلية مؤقتة الى حين اقراره التعديلات التي يطالب بها على اللائحة الداخلية الصادرة بالمرسوم بقانون رقم (94) لسنة 2002، فإن الجواب على هذا القول هو ان الأمر كله في يد مجلس النواب الذي يتمتع بالاختصاص التشريعي الحقيقي، إذ انه كان يستطيع بالغالبية المطلقة للأعضاء الحاضرين أن يترك جانباً اللائحة الداخلية المعترض عليها من غالبية اعضاء المجلس، الى حين ادخال التعديلات الجوهرية التي يراها عليها، وان يتبنى بدلها لائحة اجراءات مؤقتة، أو أن يتبنى مؤقتاً اللائحة الداخلية للمجلس الوطني السابق، وذلك الى حين اقراره للتعديلات على لائحته الداخلية التي اصدرتها له الحكومة بمرسوم بقانون.
ان السلطة التشريعية المنتخبة تتمتع في الدول الديمقراطية العريقة بأعلى السلطات في الدولة، ولا يمكن للسلطة التنفيذية الاعتراض على اختصاصاتها فيما تتخذه من قرارات. إن المعقبة تصف قرار مجلس النواب باستبعاد اللائحة الداخلية الصادرة بالمرسوم بقانون رقم (54) لسنة 2002 والاعتماد على لائحة اجراءات مؤقتة، بـ «الاستبداد التشريعي». بينما كان يجب أن يعتبر استبداد السلطة التنفيذية بالتشريع خلال فترة ثلاثة قرون عن طريق اصدار مراسيم بقوانين غير خاضعة لحكم المادة 38 من الدستور، هو الاجراء الذي يمكن ان يوصف، بحق، بالاستبداد التشريعي من جانب هذه السلطة. وبالرجوع الى المجلس الوطني السابق، فقد أصدر لائحته الداخلية بنفسه من دون تدخل من السلطة التنفيذية القائمة آنذاك وذلك بالقانون رقم (4) لسنة 1974 الصادر بتاريخ 6 يونيو/ حزيران 1974 (أي ان المجلس الوطني السابق لم يأخذ أكثر من ستة اشهر في اعداد لائحته الداخلية بنفسه). ولم تقم الحكومة حينذاك بإصدار لائحة داخلية لذلك المجلس مسبقاً وذلك التزاماً منها باحكام الدستور. والغريب أنه في الوقت الذي ترى فيه المعقبة أن مزاولة مجلس النواب اختصاصاته التشريعية في شأن تبني لائحة داخلية مؤقتة الى حين ادخال التعديلات المطلوبة على قانون اللائحة الداخلية المعروضة عليه، هو استبداد تشريعي، إلا انها لم ترَ في كل ما اصدرته السلطة التنفيذية - بعد تاريخ العمل بالدستور الحالي - من مراسيم بقوانين - تقيد مسبقاً اختصاصات مجلس النواب التشريعية والرقابية - استبداداً تشريعياً من قبل هذه السلطة، يتعارض مع نظام الحكم الديمقراطي.
ثامناً: تدافع المعقبة عن نص المادة 92 من الدستور بشأن تولي الحكومة صوغ واعداد الاقتراح بقانون الموافق عليه من مجلس النواب في شكل مشروع قانون، على ان يترك للحكومة ان تنفرد بتقديمه إلى المجلس في دور الانعقاد نفسه او في الدور الذي يليه، مع ما يتضمن ذلك من تدخل الحكومة في ادخال ما تراه من تعديلات، شكلاً وموضوعاً، على الاقتراح بقانون. ناهيك عن التأخير الذي تتضمنه هذه المادة في تقديم الحكومة لمشروع القانون مع تعديلاتها عليه إلى المجلس. وأقرب دليل على هذا التأخير هو استمرار انشغال مجلس النواب بقانون اللائحة الداخلية التي أصدرتها الحكومة بالمرسوم بقانون رقم (54) لسنة 2002. ولاتزال هذه اللائحة محل نزاع وأخذ ورد بين الحكومة ومجلس النواب وذلك على رغم مرور ما يقارب الأربع سنوات منذ بداية تقديم التعديلات عليها من قبل المجلس الذي لم ينجز اقرارها بعد. بينما انجز المجلس الوطني السابق واقر بنفسه - في ظل دستور 1973 - لائحته الداخلية في مدة لا تزيد على ستة اشهر فقط وذلك في الوقت الذي اعتمد فيه - عند مناقشته للائحته الداخلية - على لائحة اجراءات مؤقتة مستمدة من اللائحة الداخلية للمجلس التأسيسي لسنة 1972. والسؤال هو: كيف تم للمجلس الوطني السابق ذلك، في الوقت الذي تنكر فيه المعقبة على مجلس النواب الحالي - وبعد مرور اكثر من 30 سنة على تجربة المجلس الوطني السابق - أن يمارس هذا الحق الدستوري الأصيل. ثم انها، خلافاً للمنطق والتطور الحضاري، تصر على التمسك بنص المادة 92 من الدستور قائلة انه «لا يجوز الطعن بعدم دستورية هذا النص لأنه نص ورد في الدستور كما ورد في دساتير اخرى، اذ ليس ببدعة او وقفاً على دستور البحرين، وغايته ضمان حسن صوغ نصوص القانون».
وللرد على هذا القول، نقول انه لا يوجد خلاف على ان المحكمة الدستورية لا تملك اختصاصاً يخولها قبول أي طعن على دستورية نص المادة 92 لورودها في نص في الدستور، ولا يجوز الطعن إلا على دستورية القوانين. ولكننا نعترض على قولها إن هذا النص ورد في دساتير اخرى كتبرير لوروده في الدستور الحالي. لذلك رأينا أن نعقد المقارنة بين الاحكام الواردة في دستوري 1973 و2002 فيما يتعلق بالحكم الذي يتضمنه نص المادة 92 من الدستور، السالف بيانه. إذ خلافاً لحكم هذه المادة الاخيرة، تنص المادة 71 من دستور 1973 على حق عضو المجلس الوطني في ان يتقدم باقتراح بقانون. ولا تتضمن هذه المادة نصاً مشابهاً لنص المادة 92 من الدستور الحالي في شأن تولي الحكومة اعداد الاقتراح بقانون في صيغة مشروع قانون. وعند الاحالة الى المادة 80 من اللائحة الداخلية للمجلس الوطني السابق الذي اصدرها بالقانون رقم (4) لسنة 1974، يتضح لنا انه بعد موافقة المجلس على هذا الاقتراح بقانون، يتم اعداده في صيغة مشروع قانون وذلك قبل تقديمه إلى الحكومة لأخذ رأيها فيه. ومن المعروف ان صوغ الاقتراح بقانون في شكل مشروع قانون، يتم من قبل الجهاز القانوني المختص للمجلس الوطني المذكور، وعن طريق اللجنة التشريعية والقانونية.
وتتشابه المادة 109 من دستور الكويت مع المادة 71 من دستور 1973، وذلك بنصها على ان يتقدم مجلس الامة بمشروع قانون الى الحكومة بعد موافقة المجلس على الاقتراح بقانون المقدم من عضو المجلس. كما يتفق حكم المادة 105 من دستور قطر الحالي لسنة 2004 مع كل من نص المادة 71 من دستور 1973 ونص المادة 109 من دستور الكويت وذلك بنصه على انه في حال موافقة مجلس الشورى على الاقتراح بقانون المقدم من عضو المجلس، يحال الى الحكومة، «بعد وضعه في صيغة مشروع قانون ...».
ولكن من الواضح ان واضع مسودة دستور 2002 الذي استأنس بالدستور الاردني - الذي صدر بداية في سنة 1952 - قد استمد حكم المادة 92 من هذا الدستور من حكم المادة 95 من الدستور الاردني الذي وضع قبل خمسين سنة سابقة على وضع دستور 2002. ويبدو التشابه واضحاً بين المادة الاولى والمادة الاخيرة من كل من الدستورين.
ولا شك أن كلا من حكم المادة 71 من دستور 1973 وحكم المادة 109 من دستور الكويت وحكم المادة 105 من دستور قطر الحالي، هي أكثر تطوراً من حكم المادة 92 من دستور 2002 الذي ساير - على طريق الخطأ - حكم المادة 95 من الدستور الاردني الذي كان يمثل مستوى حضارة المجتمع الاردني وقلة خبرة نوابه ومستشاريهم قبل نصف قرن سابق على وضع المادة 92 من دستور البحرين الحالي.
(...يتبع
إقرأ أيضا لـ "حسين محمد البحارنة"العدد 1362 - الإثنين 29 مايو 2006م الموافق 01 جمادى الأولى 1427هـ