تاريخ العرب الحديث في فلسطين تاريخ ينم على استخدام العاطفة قبل العقل، حدث ذلك منذ خمسين عاما أو تزيد، ومازالت العاطفة لها القدح المعلى مع الأسف. من تابع تاريخنا هناك يستطيع إن تجرد أن يتعرف على فلسفة ردود الفعل الممارسة من أهل الحل والعقد في فلسطين، التي ترفض الممكن الآن لتعود إليه بعد أن يصبح مستحيلا غدا.
في المسيرة الطويلة والمعذبة للشعب الفلسطيني كانت البداية في الثلث الثاني من القرن العشرين، وكان الافتراض وقتها مركبا على عدد من التصورات، منها أن العرب بإخوتهم سيفزعون للفلسطينيين ويذودون عنهم الهجمة القادمة من أوروبا شرقها وغربها، وكانت حرب فلسطين الأولى فضيحة كتبت عنها المجلدات تتراوح بين التقصير والجهل...
انكفأ بعض العرب من جديد على أوطانهم فحصلت الانقلابات باسم فلسطين التي قادت في نهاية المطاف للقبول بما لم تقبل به الأنظمة المطاح بها. وإذا كان هناك من عذر لأولئك الأولين في التخبط السياسي الذي قاد إلى ما قاد إليه حتى خسر العرب والفلسطينيون نصف ما لديهم وهي الضفة الغربية وغزة، ومن وقتها (حرب 1967) والمحاولة تلو المحاولة تفشل في الحصول على بعض ما خسرناه، بعد أن نسينا أصلا النصف الآخر الذي أصبح الجميع على استعداد للاعتراف بخسارته!
مواقف كثيرة من الفرص الضائعة نتجت عن المزايدات التي لم تقبل بأن تنظر إلى موازين القوى ولم تقبل بأن تنظر إلى التحالف الدولي أو حتى التحالف مع شريحة من الأعداء في سبيل الحصول على شيء معقول من الحق الضائع.
كان التثقيف السياسي باتجاه التصعيد وباتجاه التهوين من الأعداء، حتى أصبحوا في حضن فلسطين التاريخية. كل الدروس التي كان من الواجب أن تتفهمها على الأقل النخبة الفلسطينية من أجل وقف التدهور لم تنفع حتى الآن على الأقل.
ليس من ضمن القول التهوين بالخسارة الكبرى ولا من ضمنه التقليل أيضا بتضحيات الشعب الفلسطيني على مر العقود الخمسة أو الستة السابقة، إلا أن المراد الاشتراك في توصيف الحال الراهنة والمريرة التي نشهدها اليوم على الأرض الفلسطينية.
الاقتتال بين الفلسطينيين سيستمر حتى وان هدأ لفترة، لأن القرار السياسي بالنضال المشترك حتى الآن لم تصل إليه النخبة السياسية الفلسطينية، فما بالك بفكرة الوطن المشترك! وإذا كانت «إسرائيل» يؤرقها أن توقف أي فلسطيني يحمل السلاح وتسبقه حتى بيته من أجل قتله، فلماذا تتعب نفسها إذا قرر الفلسطينيون أن يقتلوا بعضهم بعضا بالمفخخات أو بغيرها من وسائل القتل والإبادة.
منطق حكومة حماس في الظاهر منطق عقلاني صحيح في قولها إن عرفات ومجموعته كانوا قد قدموا تنازلات لـ «إسرائيل» فماذا حصدوا؟ وهو قول في ظاهره مقنع، إلا أن الحقيقة الأخرى أن أية اتفاقات برعاية دولية وعلى رأسها محادثات كامب ديفيد المشهورة في آخر أيام الرئيس كلينتون لم تنته بشكل قطعي وواضح. كانت المراهنة أيضا أن ما حصلنا عليه أقل مما نريد، كان هاجس «المزايدة» هو الذي جعل الرهان كله يفشل. إذا لم يستطع عرفات - رحمه الله - بكل ما أوتي من قدرة على المناورة غير مشكوك فيها أن يتخطى حاجز الخوف وعدم اليقين من «المزايدة» كان خوفه من أن تأتي قوى متشددة لتجلب الشعب الفلسطيني إلى صفها، وقد فشل عرفات ولم يمنع ذلك الفشل قيام الشعب الفلسطيني، نتيجة التثقيف الجماهيري «المزايد» باختيار قوى متشددة تجيد الرفض ولكن تنعدم الخيارات الأخرى في يدها.
لا يستطيع عاقل أن يدعي أن النخبة الفلسطينية بكل توجهاتها تجهل أن السياسة هي جزء من «الحرب»، وإذا افتقدت السياسة بوصلة توجهها لا تنفع البنادق أبداً في تحقيق أي هدف معقول.
حماس لديها مشكلة حقيقية عليها أن تنتبه لها وهي مشكلة «الداخل» و«الخارج»، وهي وإن بدت متساندة اليوم، ستتسع الهوة بينها إلى درجة أن المراقبين والشعب الفلسطيني لن يعرف من هي القيادة وما توجهاتها. كانت المشكلة موجودة جزئياً مع فتح إلا أنها كبرت مع حماس، وما حدث من احتكاك غير سوي مع المملكة الأردنية في الأسابيع الأخيرة، ومن ثم الحديث عن المتسببين في حوادث العنف في سيناء المصرية، كونهم تدربوا مع قوى فلسطينية ينذر بالخطر. صحيح أن من يمكن أن يدرب من العرب (غير الفلسطينيين على السلاح) يمكن أن يبرر بأنه مناصر للقضية! ولكن الصحيح أيضا أن الفلسطينيين لا تنقصهم القوى البشرية للمقاومة بأي شكل أرادوها. إلا أن هذا الاحتكاك غير السوي في أقل توصيفاته يفرز سلبيات أكثرها خطرا نقل الصراع خارج فلسطين. القضية الفلسطينية في غنى عن كل ذلك ويكفيها سلبيات الممارسة والتصور ونقص الخيال السياسي في الداخل.
رئيس وزراء «إسرائيل» إيهود أولمرت في زيارته الأخيرة أخذ قصب السبق في شرح الموقف الإسرائيلي لأكبر قوة عالمية، ومحمود عباس منشغل بإطفاء الحرائق الصغيرة والمناوشات اليومية بين القوى الفلسطينية المتخاصمة على رغيف لم يخرج بعد من التنور! فأي عبثية أكثر من هذا الذي يحدث.
استمعت إلى طالبة فلسطينية تشرح معاناتها وهي تنتقل بين الحواجز كي تصل إلى معهدها العلمي بعد ساعات من تركها لمنزلها، ثم تعود وقد انتصف الليل أو كاد، ومثل هذه المعاناة بأضعافها يمر بها كل يوم ذلك الشاب الفلسطيني أو الكهل أو المرأة العاملة أو الطفل، وهي معاناة إنسانية يكفي أن نستمع إليها لنرى كم من العبث يفعله أولئك القادة أو النخبة في محاولة تقاسم كعكة لم تنضج بعد، بدلاً من التوافق العقلاني، انهم يقدمون من حيث لا يعلمون أفضل خدمة وهي إضعاف الروح المعنوية لشعب كامل، يحرمونه الكرامة ويطعمونه شعارات.
لا أحد في فلسطين يريد أن يتخلى عنها للآخرين، ولا أعتقد أن هناك خارج عن الأهداف الكبيرة والمهمة، هناك قلة مثلها مثل أي مجتمع آخر تتعاون مع المحتل، وهي موجودة في كل شعب. إلا أن الغالبية لها وجهات نظر سياسية أجدر أن تسمع وأكثرها اجتهادات يمكن التوافق عليها.
ما هو مطروح الآن العودة إلى «استفتاء» فلسطيني بشأن قضايا يمكن ويجب أن يتوافر عليها المعنيون في السلطة وفي الحكومة لحلها. العودة إلى استفتاء هو دليل كامل وواضح على أن النخب الفلسطينية بأكثر اتجاهاتها لم تتعلم من دروس الماضي شيئا يذكر. ويبقى الدم الفلسطيني وفوقه معاناة الناس البسطاء مسفوحا ومباحا إلى أن يتحكم العقل ويعرف موازين القوى ويستخدمها بحذق. أما الخيار المتاح الآن فهو اقتتال فلسطيني يبدأ ليتوقف... ويتوقف كي يبدأ
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1362 - الإثنين 29 مايو 2006م الموافق 01 جمادى الأولى 1427هـ