المهلة التي أعطاها الرئيس الفلسطيني محمود عباس لحركة «حماس» للاعتراف بـ «إسرائيل» والاتفاقات الموقعة معها تثير الشفقة. فالمضحك في الموضوع أن عباس كان يجب أن يوجه كلامه لحكومة أولمرت لأنها الطرف المسئول عن تعطيل تلك التفاهمات وهي الجانب المطلوب منها الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني وحق العودة وإزالة «الجدار العنصري» إضافة إلى تطبيق القرارات الدولية المتعلقة بهذا الشأن.
المبكي في الموضوع أن عباس العاجز عن قول الحقيقة لأسباب كثيرة ومعروفة يستطيع السكوت عن الحق لظروف معلومة، ولكنه لا يملك الحق في قلب الحقائق وتحميل «حماس» مسئولية فشله في التعامل مع مسألة إدارة الصراع مع العدو وتوحيد الجبهة الداخلية لتعويض هذا التفاوت في موازين القوى بين السلطة الفلسطينية و«إسرائيل».
ما قاله عباس بشأن المهلة الزمنية يعكس اتجاه الصراع وينقل المشكلة من مكان إلى آخر ويضع القوى الفلسطينية في مواجهة داخلية بينما كل الفرقاء على علم بأن «إسرائيل» هي الطرف المسئول عن تلك الكوارث والمصاعب والمصائب التي يواجهها الشعب الفلسطيني قبل وصول «حماس» إلى السلطة.
مشكلة عباس لا تختلف كثيراً عن تلك الأخطاء التي ارتكبتها «جبهة الرفض» حين اعتبرت أن معركتها مع قيادة منظمة التحرير تشكل أولوية في برنامجها بينما الصراع مع العدو الإسرائيلي يمكن تأجيله إلى حين تصفية الحسابات الداخلية. تكرار الخطأ يعني أن الرئيس الفلسطيني وضع نفسه في سباق تصادمي سياسي/ أهلي في الداخل وجعل من «حماس» شماعة يريد اتخاذها ذريعة لتبرير الفشل وتغطية جوهر الصراع الذي ليس صعباً على أحد تحديد الجهة المسئولة عن تعطيل عناصره لمصلحة رؤية حملها معه أولمرت إلى واشنطن وعاد من هناك يحمل معه الموافقة عليها.
«إسرائيل» تستعد الآن للتصعيد العسكري، وهذا ما يمكن ملاحظته من مواصلة الاغتيالات والاعتداءات في غزة والضفة وجنوب لبنان. وهذا النوع من التصعيد التراكمي يتوقع له أن يتحول نوعاً ما إلى سياسة يومية لنقل التناقض من جبهة «إسرائيل» الداخلية إلى الجبهة الفلسطينية وربما إلى جبهات دول الجوار. ولهذا السبب يمكن اعتبار التوترات الداخلية بداية تجاوز لذاك «الخط الأحمر» الذي توصل إليه ياسر عرفات خلال فترة إدارته الطويلة لمنظمة التحرير. والحرص على منع تجاوز «الخط الأحمر» شكل قناعة سياسية دائمة عرفت تقليدياً بـ «الاستثناء الفلسطيني». والاستثناء يعني تعطيل كل احتمالات انجرار الساحة الداخلية إلى مناكفات تتجاوز الاختلافات السياسية إلى نوع من المصادمات الأهلية.
فكرة المهلة الزمنية سيئة في أساسها لأنها تعتمد الوقت وسيلة للابتزاز السياسي لطرف يتحمل مسئولية كبيرة في السلطة الفلسطينية. فالمهلة التي أعطاها عباس لم توجه إلى فصيل ضعيف يشاغب على توجهات الدولة وإنما وجهت أصلاً إلى فريق يشارك في اقتسام السلطة ويتمتع بنفوذ شعبي لا تقل نسبته عن تلك التي يمثلها عباس. وهذا يعني أن المهلة هي بمثابة إنذار. ولغة الإنذار لا وظيفة لها في الحال التي تمر بها فلسطين سوى وضع الأطراف المتخاصمة على الحصص أو التوجهات في موقع الاستنفار السياسي الذي يهدد الشارع بالانفجار. والانفجار في حال وقع تكون قيادة عباس أسهمت في خرق «الخط الأحمر» واستدرجت ما يسمى بـ «الاستثناء الفلسطيني» إلى مصيدة خططت لها «إسرائيل» منذ زمن طويل.
أولمرت عاد من واشنطن مسلحاً بالوعود الأميركية والضمانات الدولية بدعم مشروعه محلياً وإقليمياً. وهذا بحد ذاته خطوة كافية لتنبيه عباس بأن كل تلك المشروعات التي راهن عليها من خلال توقيعه تلك الاتفاقات باتت معرضة للتمزيق بعد أن اهتزت في حالات سابقة وتبعثرت. فالأوراق تلك ليست كافية لضمان أمن السلطة واستمرار وجودها. وهي في النهاية مجرد أوراق لا تتمتع بصفة شرعية ودولية وإنما هي تعهدات قالها رئيس أميركي سابق ويمكن أن يقول عكسها رئيس آخر.
القوة الفلسطينية لا تتماشى مع تلك «المهلة» لأن أصل القوة كامنة في ذاك «الاستثناء». وهذا الشيء على رغم الصعوبات التي يعانيها الشعب يشكل ضمانة لمنع الانزلاق نحو «الخط الأحمر» ويعطي صدقية لابد من المحافظة عليها لقطع الطريق على خطط تستعد «إسرائيل» لاطلاقها بدعم أميركي على المستويين الفلسطيني والإقليمي
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1362 - الإثنين 29 مايو 2006م الموافق 01 جمادى الأولى 1427هـ