ورث النظام السياسي بعد الثورة الإسلامية إرثاً عرقياً وإثنياً متنوعاً لا يكاد ينسجم إلا في إطار وطني يلبي حاجات أساسية تشفع له بحذر لأن يعيش الجميع متجاورين، بعد تجارب محاولات الانفصال والتمرد التي قامت بها بعض الأقليات وخصوصاً الكردية بعيد انتصار الثورة. ودفع ذلك لأن يراعي واضعو القوانين والدستور ذلك الميزان الحساس، فمنعت المادة 23 من الدستور موضوع التحري عن العقيدة، كما أشارت مواد أخرى إلى أشكال المواطنة الجديدة التي فسرها الدستوريون طبقاً لتأسيسات دينية تستند إليها الدولة القائمة توّاً في أصلها وفصلها.
الإثنيات والديانات غير الإسلامية المعترف بها في إيران هي المسيحية بتلويناتها المختلفة (200 ألف) واليهودية (30 ألفا) والزرادشتية (30 ألفا) جميعها عاشت في إيران منذ زمن سحيق. وقرار النظام الجديد الذي خلف الشاه أن تحتكم تلك الأقليات في أحوالها الشخصية (الزواج، الطلاق، الإرث والوصية) إلى ما تعتقد به من دين، بينما الدعاوى الخاصة في المحاكم وفي أي تجمع يحظى فيه أتباع أحد المذاهب بالغالبية، فإن الأنظمة المحلية هناك وفي إطار صلاحيات مجالس الشورى تسري طبقاً لذلك المذهب، وبالتالي فإن القضاة مكلفون باستعلام الفتوى والحكم في الأمر من رجال دين تلك الأقلية وإلا فالحكم مرفوض.
وفي السنوات الأخيرة طرأ تطور نوعي في مجال الأفهام الفقهية، تم بموجبه تعديل قانون الدّية بين الأقليات والمسلمين إذ أصبحت متساوية، وصدرت أحكام فعلية بهذا الخصوص بعد انبساطها من الناحية الشرعية وفقاً لآراء عدد من كبار المراجع كنوري همداني ومكارم شيرازي ويوسف صانعي. كما تمت المزاوجة بين قواعد فقهية ومقررات دستورية للوصول إلى نظام أفكار صالحة لإدارة ذلك الملف المهم، كما هو الحال في قانون الجزاء الإسلامي الذي نصت مادته 570 على أن «أي مسئول أو موظف حكومي يسلب الحرية الشخصية لأي فرد (مواطن) خلافاً للقانون أو يحرمه من الحقوق المنصوص عليها في الدستور؛ يتم فصله من العمل ويحرم لمدة 3 إلى 5 سنوات من المهمات الحكومية ويحبس لمدة تتراوح بين 6 أشهر حتى 3 سنوات.
وفي العام 1990 أصدر الرئيس الإيراني السابق هاشمي رفسنجاني أمراً قضى بتشكيل لجنة من المنظمات والهيئات المعنية تتكون من وزارات التربية والتعليم والصحة والعدل والعلوم والدراسات والخارجية والمجلس الأعلى للأمن القومي وقوى الأمن الداخلي للنظر في قضايا الأقليات الدينية وعرضها على مجلس الوزراء. ثم تطور الأمر لاحقاً بعد مجيء حكومة الإصلاح الأولى في العام 1997 عندما استندت إلى المادة 120 من قانون الخطة الخمسية الرابعة فأعدت مقترحا قانونيا لتشكيل مجلس تدوين السياسات الخارجية بالأقليات الدينية وشئونها في جدول أعمالها. وأفرزت تلك الجهود مجتمعة لأن تظهر أكثر من واحد وخمسين منظمة تخرج من رحم المجاميع الإثنية والدينية المختلفة.
يتشكل الشعب الإيراني من سبع قوميات هي الفارسية والآذرية والكردية واللدية والعربية والبلوشية والتركمانية، إذ ان غالبية القاطنين في محافظات آذربيجان الغربية والشرقية وأردبيل وزنجان هم من الآذريين، بينما غالبية القاطنين في محافظات كردستان وكرمنشاه وإيلام وأجزاء من آذربيجان الغربية هم من الأكراد، أما الذين هم في محافظات لرستان وبلوشستان فهم من البلوش، والذين في محافظة خوزستان فهم من العرب وأجزاء من محافظة جلستان هم من التركمان، وغالبية العشائر الإيرانية الرئيسية هي من الأتراك واللر، إلى جانب القومية الفارسية التي تعتبر أكبر القوميات في إيران.
عندما جاء الإسلاميون إلى السلطة في العام 1979 كانت أوضاع الأعراق والقوميات صالحة لأن تشتعل في أي وقت، فبلوشستان الإيرانية كانت تنشط في تجارة تهريب المخدرات والأفيون والسلاح من باكستان إلى إيران والخليج، وتهريب الذهب والأجهزة الالكترونية والبضائع الاستهلاكية من الخليج إلى إيران.
أما الآذريون فقد اختلط عليهم الولاء الديني بالولاء السياسي عبر مرجعيات مضطربة بعد الانفصال النهائي بين أتراك الأناضول وتركمان القفقاص وإيران، في حين كان الأكراد لايزالون يمخرون في اللحن الرائج ذاته لدى الأقليات الكردية في الدول المجاورة كالعراق وتركيا وسورية من أجل الاستقلال أو الحكم الذاتي. أما العرب فكانوا في مهب ريح التنافس بين الشاهنشاهية والحكم المتلون في العراق منذ ثورة العشرين. وكان لأزماً على الحكام الجدد أن يضعوا تصوراً لخريطة جديدة تجمع كل هذا الطيف المتلون والخطير، إلا أن اشتعال الحرب مع العراق في سبتمبر/ أيلول من العام 1980 وانتقال المعركة من الداخل إلى الخارج أجل إلى حد ما الحديث عن تلك الوصفة المرتقبة للاحتواء، والتفرغ لأمور أخرى أخذت تفرض نفسها. وبدأت الأنظار تتجه بشكل مركز إلى مسألة الدفاع عن الوطن، وكان ذلك كافياً لأن ترتب الأوضاع لاحقاً بشكل أفضل وتحت عناية نظر، وسنحت الممارسة السياسية اليومية لأن تترشد القيادات والأحزاب وأن تحتكم إلى لغة التوازنات والأمر الواقع.
بعد مجيء حكومة رفسنجاني الأولى تطورت الجهود التي كانت تسخرها الدولة لمعالجة المسألة العرقية، فبدأ الاهتمام ببرامج الإذاعة والتلفزيون وتأسيس الشبكات الإذاعية والتلفزيونية في المحافظات وإيجاد التسهيلات لنشر الكتب والإصدارات وإقامة المعارض الثقافية، كما أن 50 في المئة من إنتاج البث الإذاعي والتلفزيوني بدأ يذهب إلى المحافظات التي تقطنها قوميات بلغات خاصة تختص باللغة نفسها أمثال محافظات آذربيجان الغربية والشرقية ولرستان وكردستان. وبحسب آخر الإحصاءات فإن 875 عنوان كتاب باللغات التركية والأرمنية والكردية تمت طباعتها ونشرها. علاوة على ذلك تم نشر 85 إصداراً باللهجات المختلفة، بينما توجد أكثر من 179 مؤسسة ثقافية فنية وبحثية تقوم بالنشاط في المحافظات ذات المجموعات العرقية، بالإضافة إلى تأسيس 338 مركزاً لنشر الكتب في تلك المحافظات أيضاً.
قد يبدو لزاماً الحديث أيضاً على أن هذه الأعراق والأقليات الدينية تتغير امتداداتها وانتشارها وفقاً للأوضاع السياسية والاقتصادية في الداخل والخارج، وبالتالي فإن الخطط الموضوعة لمعالجتها هي بالتأكيد متغيرة ومتبدلة، كما أن الحديث عن الاختراقات والاستخدامات غير المشروعة لمثل هذه الأوراق هو وارد أيضاً، وقد تصبح تلك الأقليات والأعراق ضحية لمشروع قادم من وراء الحدود كما حصل قبل أشهر في محافظة خوزستان، وعليه فإن الجميع مطالب بأن يعرف أين يقف ولماذا
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 1361 - الأحد 28 مايو 2006م الموافق 29 ربيع الثاني 1427هـ