العدد 1361 - الأحد 28 مايو 2006م الموافق 29 ربيع الثاني 1427هـ

بين «رافض» و«قابل»

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

الاختلاف القائم الآن في مناطق السلطة الفلسطينية بين «حماس» و«فتح» يعيد إلى الذاكرة تلك الاختلافات في وجهات النظر بين الفصائل التي نشبت عقب حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973. قبل الحرب كانت منظمة التحرير الفلسطينية متوافقة على برنامج وطني موحد تؤكد فيه رفض كل القرارات الدولية (242) وتتمسك بحق العودة والتحرير الشامل لكل الأراضي الفلسطينية.

بعد حرب أكتوبر ظهرت وجهة نظر تقول إن إمكانات الثورة محدودة وهناك صعوبات تعطل على المنظمات نشاطها السياسي والفدائي. وذهبت تلك الوجهة نحو طرح برنامج مرحلي يبدأ بالمطالبة بتحرير الأراضي التي احتلت في يونيو/ حزيران 1967 وإقامة سلطة وطنية عليها... وبعدها تأتي المهمة الأخرى وهي استكمال تحرير ما تبقى من أراضٍ احتلت في العام 1948.

انقسمت منظمة التحرير على البرنامج الجديد فذهبت فصائل إلى تأييد الفكرة بذريعة المرونة، وهي مرونة كانت تعتبرها ضرورية لمنع تكرار الخلافات مع الأنظمة العربية وعدم تحدي الإرادة الدولية التي تعترف بحق الشعب الفلسطيني في استعادة أراضيه المحتلة في العام 1967.

أدى الانقسام إلى إثارة خلافات سياسية بين الفصائل وتعرضت منظمة التحرير لانشقاقات بين مؤيد للتحرير (من البحر إلى النهر) وبين متمسك بالبرنامج الجديد (تحرير نصف الأراضي). وبسبب هذا الانقسام (الوهمي) انقلبت العلاقات الفلسطينية وتحولت إلى مشاحنات سياسية تترجمت أحياناً في صدامات مسلحة بين طرف يريد التحرير الشامل (ولا يستطيع أن يفعل شيئاً) وبين آخر يميل إلى القبول بالقرارات الدولية التي تعترف بحق الشعب الفلسطيني باستعادة نصف أرضيه مقابل القبول بحق تملك دولة «إسرائيل» الأراضي التي احتلتها في العام 1948.

شكل هذا الانقسام الذي بدأ في سبعينات القرن الماضي نقطة توتر أهلية بين الفلسطينيين. ونجحت منظمة التحرير بقيادة ياسر عرفات (وحركة فتح) في تطويع برنامجها حتى تكون هيئة رسمية مقبولة في العواصم العربية والدولية.

إلا أن قيادة عرفات عجزت عن تطويع علاقاتها العربية كلياً لدعم منظمة التحرير في برنامجها المرحلي الجديد. والسبب أن هناك أنظمة استغلت الفرصة ودخلت على خط الانقسام السياسي وأخذت بتشجيع هذا الطرف على ذاك وتأليب الفصائل على بضعها مستخدمة المال والسلاح والإعلام لتمرير مشروعاتها في سياق استراتيجية لا تتفق بالضرورة مع الأهداف الفلسطينية.

لعب النظام العراقي (الصدامي) آنذاك دور المحرض الايديولوجي ضد منظمة التحرير متهماً قيادتها بالخيانة القومية وبيع فلسطين والمتاجرة بتضحيات الشعب من أجل حفنة من الدولارات ودفاعاً عن مكاسب آنية. ولاقى تحريض النظام العراقي استجابة من بعض الفصائل فنقلت مكاتبها من بيروت وارتحلت إلى بغداد تمهيداً لإعادة تأسيس منظمة بديلة أطلق عليها «جبهة الرفض».

تلخصت أفكار «جبهة الرفض» بمقاومة القيادة الفلسطينية بذريعة أن برنامجها المرحلي يعطل التحرير من البحر إلى النهر. وتحت شعارات لفظية خاضت فصائل «الرفض» سلسلة معارك ضد منظمة التحرير وشكلت شبكات سرية نفذت عمليات وتفجيرات واغتيالات في بيروت والكثير من العواصم العربية والدولية التي وافقت على فتح مكاتب (سفارات) لدولة فلسطين الموعودة.

وهكذا تحول «الرفض» من قوة ايديولوجية ممانعة تتمسك ببرنامج التحرير الشامل إلى خلايا سرية تمارس العمليات العسكرية ضد منظمة التحرير في اعتبار أنها تشكل العدو الأمامي وواجهة للاحتلال الصهيوني. وبدلاً من أن تتوجه بنادق «الرفض» ضد «إسرائيل» اقتصرت مهماتها على تنفيذ الاغتيالات والاعتداءات على الشخصيات الفلسطينية مستبعدة «إسرائيل» من نضالاتها.

أصيبت جبهة الرفض بالعمى السياسي وتحولت تلك الغشاوة الايديولوجية إلى غطاء يبرر كل الأعمال التي ارتكبت ضد قادة ومكاتب ومصالح منظمة التحرير.

ضاعت «بوصلة» جبهة «الرفض» وتشتتت أهدافها وتحول العدو إلى «صديق» والصديق إلى عدو وبلغ الضياع أوجه حين اقتحم مسلح من «الرفض» مؤتمر الأممية الاشتراكية الثانية الذي كان يعقد أعماله في مدينة لشبونة (البرتغال) واغتال عصام السرطاوي (من أنصار البرنامج المرحلي) على درج المبنى وترك شمعون بيريز الذي كان إلى جانبه يعيش فساداً في فلسطين.

حادث اغتيال السرطاوي الذي كان برفقة بيريز كشف بوضوح عن ذاك الخلل في قراءة التوازنات وتحديد الاتجاهات ورصد المخاطر وبالتالي عدم القدرة على التمييز بين عدو محتل وفلسطيني قرأ السياسة من منظار مختلف.

دفع الشعب الفلسطيني كثيراً ثمن تلك الانقسامات الوهمية ودخل في اشتباكات ومواجهات وتصفيات واغتيالات واتهامات متبادلة بالخيانة والغدر والتعامل مع العدو... ولم تهدأ النفوس والخواطر الا بعد اجتياح «إسرائيل» لبنان في العام 1982 وإخراج قوات منظمة التحرير من دون تمييز بين رافض للبرنامج المرحلي أو قابل به. فالكل أعداء من وجهة النظر الإسرائيلية.

بعد الخروج من بيروت جرت في نهر المقاومة وخارجها جداول كثيرة إلى أن وقعت قيادة منظمة التحرير «اتفاقات أوسلو» التي تنص على العودة إلى نصف فلسطين.

ما يحصل اليوم من خلافات بين «فتح» و«حماس» بشأن الاعتراف بـ «إسرائيل» أو عدم الاعتراف بها يثير من جديد مخاوف العودة إلى تلك السنوات المظلمة التي تحكمت بالسياسات الفلسطينية وأثارت من داخلها انقسامات وهمية كثيرة استفاد منها العدو المشترك الذي يتربص تلك اللحظات لتمرير مشروع لا يميز فيه بين «رافض» و«قابل» على منوال ما جرى في العام 1982 في بيروت

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1361 - الأحد 28 مايو 2006م الموافق 29 ربيع الثاني 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً