التنمية السياسية ليست دروساً أكاديمية، كما أنها ليست بحوثاً أكاديمية، ولو كانت كذلك لحصلت بعض الدول العربية على أفضل جائزة في الديمقراطية. ولو زار شخص ما مكتبات بعض الدول العربية سيجد كل التنظيرات عن الديمقراطية، ومعظمها يبدأ بأكبر طريقة مملة في التدريس، إذ يقرأ المرء التعريف الأول للديمقراطية من أنها تتكون من كلمتين كانت تنطق في أثينا قبل الميلاد، وهما «ديمو»، بمعنى الشعب، والشق الثاني يعني «حكم»، وبالتالي فإن الديمقراطية هي «حكم الشعب». ولايكاد المرء يكمل هذا التعريف الممل إلا وكان قرر غلق الكتاب وغلق فكره عن الموضوع والاتجاه نحو موضوعات حياتية أخرى أكثر أهمية من قراءة هذا النوع من الكتابات والتعريفات.
بعض دولنا العربية تصدر أطناناً من هذه التنظيرات، وتنافس في عدد الأوراق المطبوعة، لكن هذه الدول ذاتها يأكل شعوبها «التبن» ويعتصرهم الألم من كل جانب، ولا يرون من تلك الديمقراطية سوى أشخاص محنطين، وبعضهم ابتلع مسجلة ذات شريط مكسور يقوم بتشغيله بحسب الطلب من أجل الترزق، تماماً كما يترزق بائع الخضراوات من عمله الجهيد، يتمثل في أن بائع الخضراوات يفيد الناس، اما بائع الكلام الديمقراطي فيبيع الهواء الفاسد الذي يخنق من يستنشقه بحيث لا يعود يعرف الفرق بين الحياة أو الموت، لأن حياته أسوأ من الموت عندما يتعرض للجرعات النظرية الفارغة التي تتحدث عن التنمية السياسية وعن الديمقراطية في الوقت الذي تختفي معاني الذوق الرفيع من بيئة الإنسان.
الديمقراطية ليست محاضرات نظرية يلقيها من يبحث عن وظيفة لأنه أساساً عاطل عن العمل في بلاده، وإنما هي ممارسة عملية وتجربة جماعية تستهدف الخروج بأطر للمشاركة في اتخاذ القرارات في الشأن العام، وتنتج عنها عدالة اجتماعية واقتصادية. وهذه الممارسة العملية تتطلب التقاء الأفكار والإرادات نحو هدف سامٍ وهذا الالتقاء لا يتم إلا على أساس الثقة المتبادلة، وعلى أساس حسن النوايا، واثبات أن النيات غير مبيتة، وتقديم الأنموذج العملي الذي يمكن استنطاقه في الواقع العملي، إذ نرى وجوهاً جديدة لها علاقة بالمستقبل الذي يشرق بالأمل.
في بعض البلدان العربية يتم تدوير المسميات على الوجه نفسه... فلو زرت تلك البلدان فسترى أسماء الاشخاص ذاتهم أمامك، بعضهم مسئول عن أجهزة قمعية، والآخر منشغل في كتابة أغاني التمجيد وترديد الأهازيج والشعارات... ثم تزور تلك البلاد بعد عشرات السنين وتجد أن الوجوه القديمة ذاتها هي التي تتحرك في الحياة العامة، وربما ترى مسئولاً عن القمع أصبح قائداً ديمقراطياً عظيماً ينطق بنظريات لم تتوصل إليها الإنسانية بشأن معنى الديمقراطية.
ما نوده لبلادنا هو ألا تحذو حذو تلك النماذج الفاشلة التي أصبحت مثالاً دولياً للتخلف، إذ تحولت منطقتنا التي تملك كل مقومات التنمية إلى بؤرة لكل ما هو معادٍ للتقدم والتطور والإبداع. ما نوده لبلادنا هو ألا تبذر أموال الدولة على محاضرات أكاديمية بشأن معنى كلمة «الديمقراطية» بينما تتم في الوقت ذاته ممارسة أساليب «نحرت» الشعب عقوداً من الزمن في ظل قانون أمن الدولة
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 1361 - الأحد 28 مايو 2006م الموافق 29 ربيع الثاني 1427هـ