استعرضنا في المقال السابق السيناريو الثالث «الأمن أولاً» من 4 سيناريوهات بيئية يمكن أن تمر بها المنطقة، ويتخيل عالماً مليئاً بالمتناقضات والهواجس الأمنية، يسوده عدم المساواة والنزاعات، وتدهور القيم والأخلاق الاجتماعية والاقتصادية، والتضحية بالبيئة والموارد الطبيعية لتلبية احتياجات الأمن وما ينتج عنها من نتائج مدمرة على البيئة والإنسان.
ويستعرض هذا المقال السيناريو الرابع والأخير: سيناريو «الاستدامة أولاً»، وهو سيناريو معياري، على عكس السيناريوهات السابقة الاستطلاعية التي تبدأ من الحاضر وتستطلع اتجاهات المستقبل. يبدأ هذا السيناريو برؤية محددة للمستقبل، ومن ثم الرجوع إلى الوراء في الوقت للتبصر في كيفية الوصول إليها. ويسمى أيضا بالتحول الجذري، إذ يتم فيه توفير الحلول لتحديات الاستدامة (التوازن بين التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والاستدامة البيئية)، عن طريق تغيير جذري في القيم والمؤسسات، ويكون مبنيا على وضع أهداف اجتماعية - اقتصادية بعيدة المدى لتوفير مستوى عال من الرفاهية للإنسان والمحافظة على البيئة، واعتماد التخطيط الاستراتيجي الشامل لتحقيقها.
ويفترض هذا السيناريو رسوخ الديموقراطية والشفافية وانتشار مؤسسات المجتمع المدني المعنية بالبيئة، ويعتمد على تقليل الاستهلاك للموارد الطبيعية والبيئية، والاستخدام المكثف للتقانات النظيفة (الخضراء)، ويتحقق في هذا السيناريو تحسن كبير في مستوى الحاكمية، وتكون العلاقة بين الحكومات والقطاع الخاص والمجتمع المدني متوازنة، تؤخذ فيه القرارات بشكل تشاوري/تشاركي، ويفترض وعياً بيئياً مرتفعاً لدى مختلف فئات المجتمع الخليجي ومستوياته، وتحتل قضايا صحة الإنسان والبيئة محاور الاهتمام الرئيسية، ويؤدي ذلك إلى تفضيل السياسات البيئية على السياسات الاقتصادية في حالات تعارضهما.
ويرتقي في هذا السيناريو مفهوم المواطنة الخليجية، بما يحمله من حقوق ومسئوليات، إلى درجات عالية، فالجميع يعمل لتحقيق مستقبل أفضل له ولأبنائه من دون أن يكون على حساب الآخرين أو الأجيال القادمة. ويتحول فيه المجتمع الخليجي تدريجياً إلى مجتمع علمي معرفي، يتم فيه انتهاج البحث العلمي لحل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، وتشجيع البحث العلمي والتطوير في دول المنطقة بشكل كبير، وتخصيص موازنات عالية من الموازنة العامة للدول لذلك، ويؤدي ذلك إلى رفع دور معاهد البحوث والجامعات إلى المستويات المطلوبة.
وسياسياً يصل التكامل بين دول الخليج إلى أعلى مستوياته ليصل في نهاية السيناريو إلى توحيد الخليج في دولة فيدرالية واحدة (الولايات الخليجية العربية المتحدة!) تمتلك المقومات المطلوبة للبقاء ومواجهة التحديات الخارجية، كما تسعى هذه الدولة إلى التكامل الاقتصادي والاجتماعي مع محيطها العربي بهدف إنشاء كونفدرالية عربية، ويؤدي ذلك إلى بروز كتلة سياسية اقتصادية خليجية عربية قوية تكون لها مشاركة كبيرة في الاقتصاد العالمي، وتمتلك قوة الردع المطلوبة لإيقاف التدخلات الخارجية وتؤثر بشكل كبير في السياسات العالمية. وتمر المنطقة بحال من النهضة مليئة بالقوة والحيوية وباتجاه نموذج التنمية المستدامة.
ويفترض هذا السيناريو أيضا تقليل النزاعات في المنطقة وإحلال الحوار والتعاون الاقتصادي بدلاً من التوتر، ما يؤدي لتقليل الإنفاق العسكري، وتوجيه الإنفاق نحو التنمية الاجتماعية والاقتصادية وحماية البيئة.
ويتم تطبيق سياسات سكانية فعالة لتخفيض معدل النمو السكاني ليكون مقارباً للتنمية الاجتماعية والاقتصادية والموارد المتوافرة، تشمل تدريب وتأهيل العمالة الوطنية لتحل محل الأجنبية عن طريق إصلاح التعليم وبرامج بناء القدرات الهادفة إلى تحويل المجتمع الخليجي إلى مجتمع متقدم علمياً ومعرفياً، وتمكين المرأة ومنحها حقوقها السياسية والاجتماعية ودخولها بقوة في سوق العمل.
وبيئياً، تقوم الدول بتنفيذ سياسات بيئية تؤدي إلى تحقيق التوازن بين الأنظمة الطبيعية وأنشطة الإنسان، وتعمل على تحقيق معظم المؤشرات المتعلقة بالبيئة ورفاه وصحة الإنسان، كأهداف رئيسية في خطط التنمية الاجتماعية والاقتصادية. وبسبب التحسن الكبير في معدل النمو السكاني وتبني وانتهاج سياسات مائية متكاملة تركز على جانب إدارة الطلب والمحافظة والاستخدام الكفء للموارد المائية، وارتفاع الوعي البيئي والمائي عموماً، ينخفض الإجهاد المائي في المنطقة بشكل كبير.
وتقرر دول المنطقة في هذا السيناريو امتلاك تقنيات تحلية ومعالجة المياه في فترة زمنية محددة، وتضع إمكاناتها لتحقيق ذلك من خلال استثمارات كبيرة في مجال البحث والتطوير وبشكل متوازٍ مع استخدام مصادر الطاقة النظيفة (مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح المتوافرة)، ما ينتج تحقيق تقدم كبير في هذه التقنيات من دون خلق أضرار كبيرة على البيئة. ويتم ذلك على رغم توافر الطاقة الإحفورية في المنطقة وسيادة الوقود الإحفوري في السوق العالمية، ما يؤدي إلى إطالة عمر مخزون النفط والغاز في المنطقة واستمرارية مداخيل النفط لمدد أطول. ومن المتوقع ألا يؤدي ذلك إلى انخفاض كبير في كلفة إنتاج وحدة المياه، ولكن بالمقابل سيقل التلوث البيئي المتمثل في تلوث الهواء والبيئة البحرية في المنطقة بشكل كبير. ونتيجة لذلك كله، يتوقف تدهور نوعية المياه الطبيعية، ما يساهم في تثبيت حصة الفرد الخليجي من المياه عند مستويات معقولة تفي بمتطلباته الرئيسية، محققاً قدراً معقولاً من الأمن المائي للمنطقة.
وستجتمع الكثير من العوامل والظروف لحل مشكلة الأمن الغذائي، ومنها الاستثمار في تقنيات الزراعة الحديثة وانتشارها في دول المنطقة، والتعاون والتكامل الإقليمي مع محيطها العربي والإسلامي، وانخفاض ضغوطات الطلب على الغذاء بسبب اعتدال النمو السكاني، وتحسن أنماط الاستهلاك بسبب ارتفاع الوعي البيئي والغذائي. ويتم اللجوء إلى تطبيقات التقنية الحيوية في إنتاج الغذاء ولكن في أضيق الحدود، مع الاستخدام والتعامل السليم والحذر مع الأصناف المعدلة وراثياً.
حضرياً، تنتشر المدن الخضراء بشكل كبير، ويؤدي تطبيق التخطيط المتكامل للبيئة الحضرية إلى انخفاض الآثار البيئية السلبية المصاحبة للتمدن. كما يتم تطبيق سياسات واستراتيجيات متكاملة لاستخدامات الأراضي، وينتج عن ذلك تخفيض معدلات توسع المدن، وانتقال الأراضي إلى القطاعات الاقتصادية الأخرى بشكل مدروس وتقليل زحف النمو السكاني على الأراضي الصالحة للزراعة والمحافظة على الموارد الأرضية، وإعادة تأهيل المتدهور منها، ويدعم ذلك ارتفاع الوعي البيئي لدى المواطنين. ويتم تقليل الضغوط البشرية على الأنظمة الايكولوجية الطبيعية من خلال تشريعات صارمة لحماية التنوع الحيوي والأجناس النباتية والحيوانية، وينتج عن ذلك وقف تدمير الموائل والأنظمة الحيوية في المنطقة وإعادة تأهيلها. وتفوق مساحات الأراضي المحمية المحلية والإقليمية في المنطقة المستويات والمتطلبات العالمية، ما يؤدي إلى وقف نضوب الموارد الحيوية ومعدل تناقص الأجناس وزيادة مواردها بشكل كبير.
وسيتم تطبيق واسع للإدارة المتكاملة للمناطق الساحلية، وإيقاف التوسع العشوائي في المناطق الساحلية والبحرية بتطبيق استراتيجيات الحماية لها وتخفيف الأثر البيئي للتنمية الاقتصادية عليها. كما سيتم بذل جهود كبيرة لإعادة تأهيل الأنظمة البيئية الساحلية والبحرية المتدهورة. وتتم إدارة الموارد البحرية والمحافظة عليها عن طريق تشريعات وقوانين صارمة للصيد والأنشطة الاقتصادية والترفيهية، وبإنشاء محميات إقليمية للمخزون الحيوي البحري. وسيتم التصديق على المعاهدات والقوانين العالمية المتعلقة بالمحافظة على البيئة البحرية وحمايتها وتطبيقها بشكل مشترك وإعلان منطقة الخليج على أنها منطقة بيئية خاصة، مثل إنشاء تسهيلات لاستقبال مياه توازن ناقلات النفط، وتقليل حجم النفايات التي تصرف للبيئة البحرية بتطبيق مبدأ «الملوث يدفع» من خلال فرض غرامات صارمة ورادعة على الملوثين والمدمرين لها، ما يؤدي إلى تقليل التلوث النفطي والصناعي للبيئة البحرية بشكل كبير.
وبشكل عام يكون النمو الاقتصادي معتدلاً في هذا السيناريو، وأقل منه في سيناريو قوى السوق والسياسات الإصلاحية، ولكن مع توزيع أكثر عدالة للثروات وبتأثير أدنى على صحة الإنسان والبيئة، وتقل كلفة التلوث البيئي واستنزاف الموارد على الناتج الإجمالي المحلي لدول المنطقة بشكل كبير.
وأخيراً، يحق للقارئ أن يتساءل: هل يمكن تحقيق سيناريو «الاستدامة أولا» في المنطقة؟
لنتذكر أن الهدف الرئيسي من استعراض هذه السيناريوهات الأربعة، المتناقضة نوعاً ما، هو تقديم صورة عن كيف يمكن أن يتطور عالمنا خلال عمر جيلين قادمين، والتأمل في الكثير من الموضوعات والقضايا الاجتماعية التي تتقاطع مع الحوادث وتؤثر فيها لإعطاء فكرة عن الخيارات المطلوبة للوصول إلى صورة مستقبلية زاهرة لنا، والمساعدة في التفكير بعناية في كيفية التوجه نحو حوادث معينة أو تلافيها، إذ تحمل هذه السيناريوهات، التي قدمناها من خلال عدسة البيئة والتنمية، في طياتها الكثير من الخيارات والسياسات المجتمعية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والتي باعتقادي أنه لو تم تبنيها، من قبل مواطنين وحكومات، فمن الممكن أن نصل إلى ما نصبو إليه من مستقبل لمجتمعنا الخليجي
إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"العدد 1360 - السبت 27 مايو 2006م الموافق 28 ربيع الثاني 1427هـ