العدد 1359 - الجمعة 26 مايو 2006م الموافق 27 ربيع الثاني 1427هـ

فلسطين والخط الأحمر

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

الساحة الفلسطينية اليوم معرضة للاهتزاز والمزيد من الانشقاقات والانقسامات. وفي حال وضعت أسباب ذاك التوتر، الذي يهدد الساحة بالانتقال من المشاحنات إلى الاقتتال، على طاولة القراءة السياسية يمكن القول ان الخلافات لا معنى لها سوى التنافس على الزعامة في وقت هددت «إسرائيل» مدعومة من أميركا ودول الاتحاد الأوروبي الشعب الفلسطيني بالحصار والتجويع.

الساحة الفلسطينية معرضة للخطر بسبب تنافس الفصائل على بقايا وفضلات لا قيمة لها في اطار حسابات الربح والخسارة... ومع ذلك لا يجد المراقب سوى المزيد من التناحر الذي إذا واصل تصاعده سيحرق الجميع ويضعهم في زاوية واحدة.

القوى الفلسطينية اليوم وصلت إلى الخط الأحمر. وهو خط وضعه الراحل ياسر عرفات خلال عمله السياسي الطويل. فعرفات كان نقطة توازن بين القوى، وغيابه أدى إلى نمو اتجاهات لا تتردد في استدراج الساحة الفلسطينية إلى خوض غمار تجربة الحروب الأهلية. وهذا الأمر في حال تورطت فيه الفصائل تكون قد أودت بتاريخ طويل من الممانعة والمجاهدة إلى طور جديد ستكون «إسرائيل» هي المستفيد الوحيد من تداعياته وسلبياته.

غياب عرفات أحدث سلسلة فراغات تتصل بضعف المؤسسات الفلسطينية وعدم قدرتها على إدارة اللعبة في اطار مواجهات تلعب فيها الولايات المتحدة دوراً في التدخل المباشر لمصلحة الجانب الإسرائيلي. وهذا الدور الأميركي ليس جديداً لكن الجديد فيه هو أن الأطراف الفلسطينية تبدو عاجزة أولا تملك الخبرة تلك التي اكتسبها عرفات من خلال تجربته الطويلة في التعامل معه.

عرفات خلال عمله السياسي الطويل الذي امتد قرابة نصف قرن ابتكر مجموعة تكتيكات يستخدمها في الأيام الصعبة وهي كثيرة في عصرنا. فهو كان يدرك أن هناك فجوة كبيرة بين الواقع والأحلام. وعرف من خلال نضاله اليومي الذي لم يتوقف حتى لحظاته الأخيرة أن الفارق بين الامنيات والقدرة على تحقيقها يتطلب امكانات وسياسات غير موجودة في منطقة تكثر فيها العصبيات وتعصف بها خلافات على «الكراسي» وتتلاعب بها قوى دولية كبرى تملك المال والسلاح والإعلام والمعلومات ما يعطيها أفضلية في تحريك شبكات الأنظمة وتوجيهها وفق المصالح التي لا تتناسب مع الطموحات الوطنية والقومية. هذا التعارض بين الغاية الشريفة والوسائل الضعيفة انتبه إليه عرفات باكراً وحاول قدر الامكان التوفيق بين الهدف الاستراتيجي (تحرير فلسطين) والمكاسب المرحلية. لذلك عرفت سياساته الكثير من المرونة إلى درجة اتهمه بسببها رفاق الدرب بالمراوغة والتلاعب وتغليب التكتيكات على الاستراتيجية.

عرفات في هذا المعنى كان ضحية العدو الذي لاحقه حتى اللحظات الأخيرة. وضحية الأصدقاء الذين فشلوا في التقاط الأبعاد الآنية لمناوراته. وكذلك ضحية رفاق الدرب الذين عجزوا عن فهم أو تفسير بعض الحركات التي دأب على تكرارها وكان بإمكانه الابتعاد عنها.

إساءة فهم عرفات لا تعني أن الحقيقة كانت في جانبه أو انه كان الطرف الوحيد الذي يعرف خفايا الأمور والوسائل المتاحة لادارة اللعبة. كذلك لا يعني هذا الأمر أن الطرف الآخر كان على حق أيضاً. فالمسألة تحتمل أكثر من وجه. وكل وجه من القضية يحتمل أكثر من قراءة سلبية وإيجابية.

المسألة في النهاية تتعلق بالبداية. والبدء دائماً يتصل بالقراءة وكيف تستخدم الكلمات للتعرف على مسار القوى وتوازنها والمدى الذي تستطيع فيه المواقع الاقليمية الذهاب اليه في عملية الاصطدام مع الموازين الدولية، ودور القوى الكبرى المتسلطة على العرب والمسلمين والمؤيدين للدولة العبرية في تعديل توازن القوة بالتدخل المباشر وغير المباشر.

هذه الوقائع الميدانية أعطت عرفات خبرة في ملاحظة الفروقات بين خطابات انشائية تطلقها اذاعات بعض الدول العربية عن التحرير الشامل وبين عجز تلك الدول عن تحريك قطاعاتها العسكرية من مكان إلى آخر. فالتحرير شيء والتحريك مسألة أخرى. وبين الأولى والثانية هناك مساحة تتصل بالزمان والمكان وامكانات المواجهة والقدرة على تحمل النتائج.

عرفات في هذا المعنى حاول في تاريخه السياسي الطويل ان يوفق بين ضرورة المحافظة على الهدف وعدم التفريط به وبين صعوبة الوصول إلى الهدف من دون ابتكار مناورات تسمح بكسب الوقت وابقاء القضية على نار مرتفعة في درجة حرارتها. وهذا الأمر لا يمكن أن يبقى على ما هو عليه من دون منع الفصائل من اختراق الخط الأحمر.

أخطر سيناريو يمكن أن تتورط فيه الساحة الفلسطينية التي تشهد اليوم سلسلة مشاحنات ومناكفات هو السقوط في هاوية الاقتتال الأهلي باسم «التحرير الشامل». والتفكير السياسي العاقل يتطلب عودة إلى «العرفاتية» في معنى ادراكها لتوازن القوة وما تستتبعه من اعادة توظيف المكتسبات الجزئية في سياق قراءة تدرك أن «المنازلات الكبرى» تحتاج إلى امكانات وليس إلى خطابات في الانشاء

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1359 - الجمعة 26 مايو 2006م الموافق 27 ربيع الثاني 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً