في الثامن من الشهر الجاري، أعلنت إحدى الكنائس بولاية ماساتشوستس الأميركية، أن «ليليان إسبلاند» توفيت في منزلها. إلى هنا لا يهم الخبر أحداً، لكنه سيكتسب أهمية خاصة حين نعرف ان اسبلاند هي آخر ناجية من ركاب سفينة «تايتانك»، تتذكر مشهد غرق السفينة العملاقة التي شاء لها القدر أن تستقر في بطن المحيط، في أول رحلةٍ لها من الضفة الأوروبية إلى الضفة الأميركية مطلع القرن الماضي.
إسبلاند التي توفيت عن 99 عاماً، كانت في الخامسة من عمرها، من بين ركاب السفينة الأكبر في العالم، إذ ساد الاعتقاد بأنها «غير قابلة للغرق». بل ان صاحبها قال وهو في قمة الثقة والغرور عند انطلاقتها: «حتى الله لا يستطيع أن يغرقها»!
ما حدث هو انها اصطدمت بجبل جليدي يوم 14 أبريل/نيسان 1912 وغرقت فجر يوم 15 ابريل، بعد بضع ساعات من مصارعة «الماء»، بينما كانت في طريقها من ساوثامبتون إلى نيويورك، ما أدى الى وفاة 1490 شخصاً في مياه المحيط الأطلسى، من بين 2201 كانوا على متنها، من بينهم والدها وثلاثة من أشقائها.
أسرةٌ مهاجرةٌ من السويد، كتب الله الغرق على نصفها، وأرسل النصف الآخر إلى الساحل: ليليان وأمها وشقيقها الذي كان في الثالثة، بعد أن نقلوا إلى زورق إنقاذ.
السفينة الأسطورة استقرت في بطن المحيط 73 عاماً، حتى تولى فريق فرنسي أميركي في سبتمبر 1985 على حطامها في قعر المحيط على عمق أربعة كيلومترات قبالة سواحل «نيوفاوندلاند». وقالت أمها في حديث لإحدى الصحف قبل عقود وهي تصف تلك اللحظات الحاسمة: «صعدنا إلى الطابق العلوي وتمكنت من رؤية جبال الجليد على امتداد مسافة كبيرة حولنا... كان الجو بارداً والصغار يحبُون ويحاولون النجاة من بين أقدام المفزوعين. وقال لي زوجي وهو يبتسم: اذهبوا... سنلحق بكم في زورق آخر». فذهبوا إلى الشاطئ بينما غاص هو في قاع المحيط.
أما الطفلة ليليان، آخر أميركية احتفظت ذاكرتها بمشاهد مئات من الركاب وهم يغرقون، آثرت العيش في الظل، وعملت موظفةً في شركة تأمين، وكرّست حياتها لرعاية والدتها من دون أن تتزوج، فلم تكن من النوع الذي يرغب في الحديث عن اماضي، حتي لو كانت أكبر كارثة بحرية في وقت السلم.
بعد رحيل العجوز ليليان، بقي من رحلة الموت عجوزان أخريان، تقيمان في إنجلترا، كانتا رضيعتين وقت إنقاذهما، فهما لا تتذكران شيئاً من مشاهد الصراع مع الموت تلك الليلة.
«تايتانك» بُعثت إلى الحياة مرتين، مرة بانتشال حطامها، ومرة بتجسيدها فيلماً سينمائياً رائعاً ألهب خيال المشاهدين في قارات العالم الخمس، حين استطاعت فنون السينما تقديم مرثيةٍ بليغةٍ تناولت تفاصيل رحلة الموت على متن السفينة «التي لا تغرق»
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1358 - الخميس 25 مايو 2006م الموافق 26 ربيع الثاني 1427هـ