العدد 1357 - الأربعاء 24 مايو 2006م الموافق 25 ربيع الثاني 1427هـ

«ديمقراطية» التفكيك

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

الاستفتاء الذي جرى الأحد الماضي لتقرير مصير «الجبل الأسود» في جمهورية صربيا يكشف عن سلبيات كثيرة ترتكبها أوروبا (مدعومة من الولايات المتحدة) باسم «الديمقراطية». فالاستفتاء طرح السؤال الاتي «هل تريد أن يكون الجبل الأسود دولة مستقلة؟». وجاءت نتيجة الاقتراع لمصلحة «الاستقلال» كما تقول الجهات الدولية المشرفة على الاستفتاء، بينما خسرت الجهات المعارضة (الموالية لصربيا) المباراة واصفة النتيجة بـ «الانفصال».

الرابحون بنسبة أكثر من 55 في المئة اعتبروا أنهم كسبوا المعركة وبات بإمكان «الجبل الأسود» دخول منظمة الأمم المتحدة كدولة مستقلة والخاسرون رفضوا النتيجة واتهموا الهيئات المشرفة بالتزوير وطالبوا بإعادة فرز صناديق الاقتراع. وبين الرابح والخاسر الآن معركة سياسية قد تتحول إلى فتنة أهلية في حال لم يتوصل الفرقاء إلى صيغة تسوية تضمن توازن المصالح بين التكوينات الاجتماعية والدينية والقومية التي يتشكل منها «الجبل الأسود». فالجبل هو نتؤ من المرتفعات يقع على شواطئ البحر المتوسط (الادرياتيكي) ويشكل بالتالي المنفذ المائي الوحيد الذي تبقى للاتحاد اليوغسلافي. وفي حال تم فصل الجبل وعزله سياسياً عن صربيا تتحول الأخيرة إلى دولة ريفية لا موقع لها على المياه الدافئة.

هذا الواقع الجيوبوليتكي (الجغرافي السياسي) يفسر أسباب غضب بلغراد ورفضها نتيجة الاستفتاء مستندة في موقفها إلى أنصارها في «الجبل الأسود». كذلك يوضح الاستفتاء مدى إثارة الاتحاد الأوروبي نعرات دفينة وعصبيات منغلقة باسم حرية القرار وحق تقرير المصير. فالدولة الجديدة صغيرة الحجم (ميكرو دويلة) ولا يتجاوز تعداد سكانها المليون (750 ألف نسمة) وهي لا تملك الموارد أو الخامات التي تؤهلها اقتصادياً للاستقلال الحقيقي. فالجبل مجرد موقع استراتيجي لدولة أخرى (صربيا) وهو يتألف من فسيفساء (كوكتيل) بشري متعدد الأقوام والأعراق والأجناس والأديان والطوائف والمذاهب. وكل هذه الجزئيات تعتبر عناصر ضعف في حال مرت هذه «الدولة المستقلة» في ظروف توتر ناتجة عن قلق محيطها الإقليمي.

المسألة إذاً ليست استفتاء ولا دعوة للديمقراطية وانما تكمن في تلك المشكلة التي أخذت تتأسس بناء على معطيات واقعية ينتظر أن تدفع بالمجموعات التي يتألف منها «الجبل» إلى الاستنفار السياسي انطلاقاً من نزعات عصبية. وفي حال حصل هذا الأمر تكون «الديمقراطية» واحدة من الأسباب التي ساهمت في تفجير علاقات أهلية تعرضت لسلسلة امتحانات دموية منذ بدأ الاتحاد اليوغسلافي يتحطم في تسعينات القرن الماضي.

مشكلة «الديمقراطية» المفروضة بالقوة والهابطة بالمظلات على بلدان نامية أصبحت منذ عقدين تشكل بؤرة للتوتر وذريعة للاقتتال الأهلي والانفصال (الاستقلال). كذلك أصبحت هذه الأنواع من «الديمقراطيات» سلاحاً تشهره الدول الكبرى لابتزاز خصومها سياسياً واستدراجها إلى معارك وهمية في وقت تكون الأهداف الحقيقية هي إضعاف الدول الإقليمية وزعزعة استقرارها وبعثرتها على جزئيات تتفكك تلقائياً وفق منظومة علاقات أهلية تتحكم فيها عصبيات موروثة. فيوغسلافيا تعرضت خلال أقل من عقدين إلى هزات عنيفة أودت بحياة مئات آلاف البشر وشردت الملايين وأنتجت في النهاية مجموعة دويلات وهي: سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة (الهرسك) ومقدونيا وكوسوفو. والآن جاء دور البقية وهي تتألف من اتحاد هش تشكل في العام 2003 يجمع صربيا والجبل الأسود. فالاتحاد مفكك أصلاً وديمقراطية الاستفتاء ستزيده تفككاً.

وهذا النوع من الإمعان في التفكيك سيزيد من اهتزاز منطقة البلقان وسيدفع القوى إلى حال من الاستنفار العصبي بينما المطلوب «ديمقراطياً» البحث عن المشترك لتوسيع الأسواق ودعم قطاعات الاقتصاد المتكيف مع العصر والمحافظة على الاستقرار لإنتاج هوية جامعة تقوم على وحدة المصالح والانفتاح الإنساني.

ما حصل في «الجبل الأسود» يعاكس التطور ويخالف نزعة الإنسان نحو التقدم والتعايش والتعارف. فالاستفتاء فرز المجتمع إلى تكوينات متنابذة. فالارثوذكسي اقترع ضد «الانفصال» والسلافي أيضاً مال إلى تأييد بقاء الاتحاد مع صربيا. بينما اتجه البوشناقي (المسلم) والألباني المسلم إلى دعم «الاستقلال» كذلك فعل الكرواتي (الكاثوليكي). وهذا يعني في نهاية المطاف احتمال تدهور العلاقات الأهلية ً وربما تصادمها مجدداً حين تتعارض المصالح مع الهويات الصغيرة (الميكرو).

«الديمقراطية» في طبعتها الأوروبية المتطورة جداً تحولت فعلاً إلى مشكلة سياسية في دول نامية أو غير متطورة في وعيها السياسي. فالتدني في مستوى العلاقات الأهلية ينتج وعياً متديناً يميل إلى تغليب الموروث على المصلحة وبالتالي السير في اتجاه يعاكس ما يتطلبه العصر من تفتح لتعزيز عناصر القوة وتشكيل دول قادرة على مواجهة ضغوط المستقبل

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1357 - الأربعاء 24 مايو 2006م الموافق 25 ربيع الثاني 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً