في المقال السابق تم استعراض سيناريو «السياسات أولاً» وهو الثاني من أربعة سيناريوهات بيئية يمكن أن تمر بها المنطقة، في عالم تخضع فيه التنمية لقوى وآليات السوق، ولكن تتدخل الحكومات بشكل قوي وفعال لتحقيق قدر أعلى من العدالة الاجتماعية وحماية أكبر للبيئة من خلال إدماج القضايا الاجتماعية والبيئية في السياسات الاقتصادية والمالية. وفيه يقل التدهور البيئي عن السيناريو الأول «السوق أولاً» بسبب إعطاء البيئة اهتماما أكبر واحتلال القضايا البيئية مرتبة أعلى في سلم أولويات دول المنطقة، إلا أن ضغوط سياسات الاستثمار والتنمية الاقتصادية تستمر على البيئة والموارد الطبيعية.
السيناريو الثالث اليوم: «الأمن أولاً»، ويتخيل عالماً مليئاً بالتناقضات والهواجس الأمنية، يسوده عدم المساواة والنزاعات على المستويين الوطني والإقليمي، وتتدهور فيه القيم والأخلاق الاجتماعية والاقتصادية، ويمثل نخبا تعيش في مقاطعات محمية، وتحمي امتيازاتها بالتحكم في الغالبية وتستغل وتدير الموارد الطبيعية لصالحها.
وهذا السيناريو من أصعب السيناريوهات، والذي يمكن أن تدخل فيه دول المنطقة، إذ يختلف عن السيناريوهات الأخرى في إمكان عدم استمرار منحنيات المتغيرات والقوى الدافعة الرئيسية فيه وتذبذبها بشكل كبير وحاد، مثل النمو السكاني والاقتصادي والتنمية البشرية والاستقرار الداخلي، وخصوصاً أن المنطقة لها تاريخ في عدم التيقن وحدوث المفاجآت وتعرضها المستمر للتأثيرات والتجاذبات الخارجية والنزاعات الإقليمية والدولية ووقوعها في بؤرة مصالح الدول الكبرى المهيمنة على العالم. إضافة إلى أن دول المنطقة تمر حالياً بمرحلة تاريخية انتقالية تتسم بتنامي دور المجتمع المدني وتشكيله ضغوطا مستمرة على الأنظمة الحاكمة للمشاركة في صنع القرار، وقد تلجأ الأخيرة إلى التصدي الدكتاتوري لتهديدات الانهيار للحفاظ على الوضع القديم والمصالح القائمة.
ويتصور هذا السيناريو غياب الديمقراطية الدستورية والشفافية والمحاسبة وضعف المشاركة الشعبية في صنع القرار، وهيمنة المؤسسة العسكرية والأمنية، وتخصص حكومات المنطقة نسبا كبيرة من موازناتها للدفاع والأمن الداخلي على حساب التنمية الاجتماعية والاقتصادية وحماية البيئة، وتتم التضحية بالبيئة والموارد الطبيعية لتلبية الاحتياجات الأمنية. كما يكون الإنفاق على البحث العلمي والتطوير لحل مشكلات المجتمع الخليجي الاجتماعية والاقتصادية والبيئية ضئيلا جداً، وإن وجد فهو موجه إلى البحوث العسكرية والأمنية.
وتحت هذه الظروف ينتشر الفساد الإداري والمالي، ويقود المسئولون الفاسدون المسرح الاقتصادي في هذه الدول، ما يؤدي إلى هروب الاستثمارات وإحجام القطاع الخاص عن الاستثمار بسبب الفساد وعدم الاستقرار الداخلي، وتزداد معدلات البطالة وتهبط مؤشرات التنمية البشرية إلى أدنى مستوياتها، وتزداد الفجوة بين الشرائح الفقيرة والغنية في المجتمع، وتتكتل فئات المجتمع المختلفة حول تركيبات قبلية (طائفية دينية) اثنية بدلاً من الالتفاف حول مؤسسات الدولة، مؤدياً ذلك إلى تفتيت النسيج الاجتماعي للمجتمع الخليجي.
وتتسم المنطقة بحال عالية من عدم الاستقرار الداخلي، وتتزايد بسبب الضغوط الخارجية بسبب المصالح الخارجية في ثروات المنطقة، وبذلك تغطس المنطقة إلى تباين اقتصادي واجتماعي عميق واضطراب سياسي يؤديان إلى الحلول الدكتاتورية. وتزداد حدة استغلال الموارد الطبيعية والبيئية، إذ تسود العقلية العسكرية التي تنظر إلى هذه الموارد كأداة لتحقيق الأهداف العسكرية والأمنية الآنية بدلا من الاستخدام المرشد لها واستدامتها في خدمة تنمية المجتمع.
إقليمياً، تسود حال التشرذم بين الدول ويتبخر معها حلم الوحدة والتكامل الخليجي، وتسعى كل دولة إلى حماية نفسها ومصالحها الخاصة بعقد الصفقات والتحالفات السياسية واتخاذ القرارات بشكل منفرد، مضعفة بذلك منظومة مجلس التعاون وموقفها التفاوضي أمام التكتلات الاقتصادية العالمية. ومع الوقت يتم إدماج اقتصادات المنطقة في هذه التكتلات، فتتعرض هذه الدول إلى التبعية والهيمنة الخارجية والتحكم في مواردها الطبيعية، ما يؤدي إلى تقليل الفرص الاقتصادية والتنافسية لدول المنطقة. ويستمر تدخل القوى الأجنبية لحماية مصالحها، ويزيد وجودها العسكري وقواعدها بشكل كبير، وتجر دول الخليج في نزاعاتها في المنطقة بشكل مستمر مؤدية إلى استنزاف موازناتها، وسيكون للدفاع والأمن الداخلي الحصة الأكبر في موازنة الإنفاق العام لدول الخليج، ما سيؤدي إلى تقليل حصة القطاعات التنموية الأخرى، وسيؤثر هذا بشكل كبير على الاقتصاد ورفاه الإنسان والتنمية وفي النهاية على البيئة والموارد الطبيعية.
ويفترض هذا السيناريو معدلات خصوبة عالية مشابهة لسيناريو السوق وأعلى، وتؤدي إلى زيادة معدلات الإجهاد المائي وتناقص حصة الفرد من المياه، ويفاقم ذلك وضع قضية المياه والبيئة في مراحل متدنية على سلم الأولويات في المنطقة، وعدم وجود تخطيط استراتيجي لإدارة الموارد المائية. ومع تزايد الطلب على الغذاء، وبسبب هيمنة الهاجس الأمني في هذه الدول وغياب التعاون الإقليمي، تتبنى كل دولة بمفردها سياسات للأمن الغذائي وتقوم بتشجيع الإنتاج الزراعي المحلي بتقديم المعونات لتحقيق ذلك، ما يؤدي إلى استنزاف المياه الجوفية وتملح المياه وتدهور الأراضي وفقدان إنتاجيتها وتصحرها. وستلجأ الدول إلى استخدام المياه المعالجة بشكل كبير لتعويض النقص في مياه الري، ولشدة الطلب ستستخدم هذه المياه من دون الاهتمام بالتقيد بمواصفات الاستخدام، ما يعرض المنطقة إلى مخاطر انتشار الأمراض والأوبئة. وبعد ذروة في الإنتاج الزراعي، تبدأ نسبة الأمن الغذائي في الانخفاض مع نضوب وتدهور نوعية المياه الجوفية المستخدمة في الري والأراضي الزراعية، ويصبح استيراد جل احتياجات الغذاء من الخارج أمرا لا مفر منه.
وفي ضوء تدهور إنتاجية الأراضي الزراعية وغياب سياسات حمايتها، سيتم تحويلها إلى القطاعات الأخرى بشكل عشوائي (مثل الإسكان والدفاع وغيرها)، وستنخفض حصة الفرد الخليجي من الأراضي الصالحة للزراعة بشكل كبير. وفي هذا السيناريو يتم إهمال البحث العلمي والتطوير في مجال المياه غير التقليدية، إلا أن الجهود العالمية ستستمر في هذا المجال وستنخفض كلفة إنتاج وحدة المياه مع الوقت، إلا أن دول المنطقة لن تستطيع امتلاك هذه التقنيات وستظل مستوردة لها. وبسبب انتشار الفساد ووجود تحالف المصالح بين الحكومات والقطاع الخاص على حساب المجتمع المدني، يتم تخصيص مرافق وخدمات المياه بإعطائها للشركات العالمية التي لها علاقة بالقيادات العليا بالدول. وستكون هناك حاجة إلى زيادة الضرائب ورفع الدعومات الاجتماعية للخدمات لتقليل العجوزات في الموازنات بسبب الإنفاق العسكري والأمني، وستتعرض الطبقات الفقيرة وذات الدخل المحدود إلى ضغوط مالية كبيرة وستحرم من الكثير من الخدمات الأساسية للمياه والصرف الصحي والخدمات الحيوية الأخرى، مغذية بذلك عدم الاستقرار العام، بينما يحصل المسئولون والنخب العسكرية على إعفاءات من دفع قيمة هذه الخدمات، فيزيد ذلك الفجوة بين الطبقات الفقيرة والغنية.
وبالنسبة إلى البيئة الحضرية، سيكون هناك تفاوت كبير في مستوى الخدمات الأساسية وحال البيئة بين المناطق، إذ يتم التركيز على توفير الخدمات وإعطاء الأولوية للمناطق التي تسكنها النخب الحاكمة والقريبة منها، وعدم الاهتمام بالمناطق الأخرى، وستتكون مقاطعات حضرية تكون فيها البيئة والخدمات على مستوى عال، بينما تكون هذه الخدمات في أدنى مستوياتها في المناطق الأخرى ذات الكثافة السكانية العالية التي تعيش فيها الغالبية الفقيرة، وما يتركه ذلك من تأثيرات سلبية على صحة الإنسان والبيئة (نقص المياه وعدم توافر أنظمة الصرف الصحي والمخلفات الصلبة وتلوث الهواء)، وستزداد معدلات البطالة والجريمة في هذه المناطق، وستكون هذه المناطق المصدر الرئيسي للاضطرابات الداخلية. وبسبب الحاجة إلى الغذاء وقضية الأمن الغذائي وانعدام التعاون بين دول المنطقة وغياب الأنظمة الإقليمية لحماية الثروة السمكية (أو عدم الالتزام بها)، سيؤدي ذلك إلى استنزاف الثروة السمكية والمخزون السمكي، ما يؤدي إلى تدهور البيئة البحرية والفقدان النهائي للموائل والبيئات البحرية والتنوع البيولوجي فيها. وسيزداد حجم صناعة تربية الأسماك لتعويض النقص في الطلب على الغذاء من دون أي اهتمام بالأضرار والمخاطر المحتملة على البيئة والصحة. وإلى جانب زيادة استغلال هذه البيئات بشكل عشوائي، سيكون هناك ضغط إضافي بسبب العمليات العسكرية والتدريبات والمناورات العسكرية وتجارب الذخائر الحية، بالإضافة إلى التأثيرات المدمرة لهذه البيئات من الصدامات العسكرية المتوقعة في مياه الخليج. وستتلقى البيئة البحرية حمولات ضخمة من المخلفات العسكرية الخطرة، ومستويات عالية من التلوث النفطي بسبب تكرار حوادث الانسكابات النفطية في مياه الخليج الناتجة عن الأعمال العسكرية التخريبية التي تستهدف المنشآت النفطية وناقلات النفط (كما حصل في حرب الخليج الأولى والثانية)، وستضطر الدول لإيقاف محطات التحلية بين حين وآخر بسبب عدم صلاحية المياه للتحلية، أو تجاوز ذلك وإنتاج مياه محلاة ملوثة تؤثر سلباً على صحة الإنسان.
وتحت هذه الظروف سيزداد تدمير الموائل الطبيعية والأنظمة الايكولوجية كنتيجة مباشرة لزيادة ضغوطات الإنسان على الموارد الطبيعية والحيوية (الأراضي الزراعية والمراعي والمناطق الساحلية والثروة السمكية)، ما يؤدي إلى خسارة التنوع البيولوجي وتناقص أعداد الأجناس وزيادة الأجناس المهددة بالانقراض. وستكون الجهود المبذولة لوقف ذلك غير فعالة تحت الظروف الاقتصادية المتدهورة والحاجة إلى الغذاء، وستخسر المنطقة جزءا كبيرا من مواردها الحيوية.
وبحسب هذا السيناريو، ستتم التضحية بالبيئة والموارد الطبيعية لتلبية احتياجات الأمن في دول الخليج، وستنتج عنها نتائج مدمرة طويلة الأمد على البيئة والإنسان.
المقال المقبل سيستعرض السيناريو الأخير: «الاستدامة أولاً»، وفيه يتم توفير الحلول لتحديات الاستدامة، والوصول إليه عن طريق تغيير جذري في القيم والمؤسسات وانتشار اللامركزية والديمقراطية والشفافية، ومبني على وضع أهداف بعيدة المدى واعتماد التخطيط الاستراتيجي الشامل لتحقيقها
إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"العدد 1353 - السبت 20 مايو 2006م الموافق 21 ربيع الثاني 1427هـ